في عام 1989 تمكن الشاعر العراقي الراحل كمال سبتي من الهرب الى خارج العراق بعد أن وجهت اليه دعوة ثقافية لحضور أحد المهرجانات في تونس، كانت طريقة هرب كمال في ذلك الوقت قد أذهلت الوسط الثقافي العراقي، فرصة ذهبية اغتنمها الشاعر وغادر البلاد قبل الموعد المقرر للسفر بيوم واحد، وكان دخوله مطار بغداد الدولي فيه الكثير من الخوف والرعب، كان كمال غير مصدق بأنه سينجو ويفلت من الجلادين الذين يحكمون البلاد بالحديد والنار. يا له من ذعر خيم على روح الشاعر وهو يفلت بجلده من البلاد التي حُطمت ودمرت بالحروب والنكبات والمآسي والويلات على مدى سنوات طويلة. ويجوب كمال سبتي الدول والمدن الأوروبية بصحبة أوراقه الحاملة قصائده التي أخلص لها منذ نعومة أظفاره حتى رحيله، ويذهب الى إسبانيا ويدرس الفلسفة في جامعة مدريد ومن ثم ينتقل الى الشمال الهولندي ليعيش سنواته الأخيره من حياته التي كرسها ويقدم لنا سبع مجموعات شعرية.
في العام 2002 التقيت كمال سبتي في سوريا لأول مرة بعد هروبه من العراق، وأنا أدخل مقهى الروضة في الشام. كان لقاءً جميلاً دام لمدة شهر، مدة إجازتنا، لم أفارق كمال، كنا نذهب يومياً الى نادي الصحفيين ونلتقي بالعديد من الأصدقاء العراقيين والعرب، حتى صدرت مجموعته "آخرون قبل هذا الوقت". وأقيمت له أمسية فريدة من نوعها حضرها جمهور غفير من الأدباء والصحفيين، وأذكر حين قرأ كمال سبتي قصيدته "البلاد" أصابه الوجع بقوة وبطريقة كانت واضحة على ملامح وجهه. انها قصيدة البلاد، ويعني كمال سبتي في هذا العنوان أشياء كثيرة وكثيرة جداً، حتى إن دموعه أحسها مازالت رطبة وأنا أتصفح مجموعته التي قام بإهدائها اليّ في دمشق يوم أمسيته، وبعد أيام قليلة اقترب موعد السفر، وكان عليّ أن أقلع بطائرتي قبل طائرة كمال بأربع عشرة ساعة، وقد كتب اليّ اهداءً جميلا ما زلت أسمع فيه صدى قهقهات كمال العالية وضحكاته التي كنت أحس بها مخنوقة ومربوطة بخيط غليظ من الحزن والألم واللوعة!
كتب كمال في إهدائه يقول": صديقي هادي: ستطير قبلي من دمشق بأربع عشرة ساعة، فطرْ قبلي، كما يقول شيلر في نشيد الفرح : طيروا أيها الإخوان من مقاعدكم. أتمنى ألا تطير من مقعدك في الطائرة.. محبة كمال سبتي / دمشق 26 / 8 / 2002"..
لقد كان الشاعر كمال سبتي ومن خلال قصيدة البلاد يعرف سر البلاد وسر حتفها الذي أصبح واضحاً للجميع. لقد أسس كمال لمدرسة شعرية حديثة، وتوجت تلك المدرسة من خلال مجاميعه الشعرية والتي حين نقرأها نشعر بنشوة الشعر الصافي. كتب كمال قصيدته "البلاد" بين عامي 1995 -1997 وهي نتاجه الشعري الوحيد لتلك السنتين، إلا ان القصيدة لم تكتمل على حد قوله. فعاد في شباط من عام 2001 بعد أن أكمل قصيدة "حكاية في الحانة" وهي ثاني قصائد مجموعته "اخرون قبل هذا الوقت"، فأكمل قصيدة البلاد في العام نفسه، لترى النور في الصفحات الثقافية من جريدة الزمان اللندنية، ولتأخذ قصيدة البلاد أكثر من ثلاثة أرباع الصفحة بسبب المدى الواسع الذي تتحرك فيه القصيدة إضافة الى الأجواء الشعرية العالية التي تخيم على القصيدة برمتها لتجعل منها تراجيديا الشعر الحديث. يقول كمال سبتي في مقطع من قصيدة البلاد الطويلة والتي بكى وهو يقرأها في أمسية أحتفاءً بمجموعته الشعرية "آخرون قبل هذا الوقت" فيقول:
القارِبُ الّذي لاحَ لي في النـَّهرِ كانَ جـُثّةً.
أنكفئُ إلى سعادةِ شـُبـّاكٍ، إلى عـُريٍ لا يـُضاءُ بمصباحٍ،
وإلى حـَطـَبِ شـتاءٍ يـُشعِـلُهُ غزاةٌ صحراويـّونَ.
يـَصْـهـِلُ حـِصانُ الـذَّهـَبِ والفضـّةِ، يـَصْـهـِلُ حـِصانـُكَ يا أميـرُ.
يـَرْتـَجِفُ الفنجانُ، يـُلطـِّخُ بالقهوةِ خريطةً مـُهَرّبة.

عرض مقالات: