ـ :"أجل، أنها كذبة"، رددها الفتى مع نفسه بعد أن كبر واصبح شيخا، يتذكر جيدا التفاصيل، كأنها شريط سينمائي يدور امامه، يعرض الصور، صورة صورة، بل مشهدا مشهدا... كان الصباح يحمل أخبارا كثيرة للفتى المولع بكرة القدم.. الكرة التي سحرته وباتت استدارتها ترافقه في صحوه ومنامه، خاصة بعد أن اخبره الاستاذ مهدي، معلم الرياضة بأنه يمتلك موهبة كروية، اذا صقلها بالتدريب اليومي، فسيكون له شأن كبير في اللعبة التي احبها كثيرا. لهذا كان يصر على التدريب اليومي عبر انضمامه الى فريق يضم لاعبين من قطاعي 18 و 14 واشتراكه مع الفتيان بشراء كرة قدم "أم ثلاث دراهم" وهي كرة بلاستيكية نطاطة وهشة ازاء قطع الزجاج او تحت دواليب السيارات المارة في الشارع، أو تحت ضغط أقدام اللاعبين سرعان ما تنفجر.
كان الفتية يلعبون في الساحة التي تقابل مقهى "ابو عبود" في جزرة وسط شارع ستين الذي يفصل القطاعات. يتخذون من عمود الكهرباء طرفا لمرمى صغير يستخدم في الطرف الآخر للهدف طابوقة صغيرة او قطعة ملابس.. حينما وصل الساحة كانت الكرة مودعة لدى حارس المرمى شاكر.. ذهب الى بيت شاكر ليخبره بالمجيء الى الساحة لبدء المباراة اليومية التي يعدها تمرينا يوميا لتنمية موهبتة التي حدثه عنها معلم الرياضة ، استغرب تأخر شاكر وبقي ينتظر وهو يطرق الباب.. خرج شاكر واخبره أن اباه يمنعه من اللعب هذا اليوم، وذلك لان الحرب بيننا وبين اليهود قامت، شاكر كان اكبر منه سنا واباه من الذين يتحدثون في المقهى عن الثورات والعرب واليهود ودائما يتأبط جريدة او مجلة في كل زيارة الى مقهى "ابو عبود" الذي كان يفرغ للصبيان بعمره او اكبر قليلا التخت الاول القريب من التلفزيون.. يشاهدون المباراة التي طرفها احيانا الفريق العسكري العراقي الذي كان يهزم الفرق التي تلعب معه، ومن التلفزيون الابيض والاسود سمع اسم جمولي وشدراك وصاحب خزعل ومجبل فرطوس وغيرهم الكثير.. وهناك كان يشاهد ابو شاكر وهو يتحدث في السياسة بصوت عال وحوله يتحلق مجموعة من اباء اصدقائه.. "ما معنى الحرب؟ وما معنى اليهود؟" لم يشرح له شاكر شيئا بل ناوله الكرة وعاد الى البيت.. اخذ الفتى الكرة وحالما وصل الساحة سمع من مذياع المقهى الذي رفع صوته ابو عبود على غير عادته أرقاما لم يفهم منها شيئا. وصل اصدقاؤه وبدأت المباراة ناقص شاكر الكولجي.. وتواصل الصوت يعد.. وحينما طارت الكرة قرب التخوت الخشبية التي كان يضعها ابو عبود امام المقهى، ركض هو لجلبها وسأل "عبود" عن معنى الاعداد التصاعدية التي تنطلق من فم مذيع بصوت قوي.. قال له بفرح انها اعداد الطائرات اليهودية التي يسقطها العرب.. سأل عبود "كم عدد الطائرات التي اسقطت؟ " قال له: "احرقنا حتى الان ـ وكانت الساعة تشير الى العاشرة او الثانية عشر ظهرا.. 21.. 22.. 23... 30.. 35.. الى حد المغرب وصل العدد الى 80 طائرة تم اسقاطها من القوات العربية المصرية والسورية والعراقية والاردنية... والكل يصرخ الله اكبر.. سنحرق اسرائيل.. واحد اخر سمع خطابا لرئيس عربي "سنلقي اسرائيل في البحر" فكاد يسأل "هل ستأكلهم الاسماك"؟
في الايام التالية تبين ان اعداد الطائرات التي احترقت هي "كل الطائرات الجاثمة والنائمة في المطارات المصرية".. ضربة قاتلة حيدت الطيران المصري دفعة واحدة... واننا كنا ضحية خديعة نشرات الاخبار الكاذبة والتي لا نعلم كيف سمحت الاذاعات العربية بنشر اكاذيب كهذه عن بطولات غير موجودة... فكانت بحق "كذبة حزيران الكبرى"!

عرض مقالات: