احداث الايام الماضية التي مرت على روسيا افرزت كثيراً من المعطيات التي تشكل دروساً سياسية بالغة الأهمية، خاصة لأولئك السياسيين ذوي العقول الواعية التي لا تفرط بمصالح وطنها امام اية ازمات تمر بها مهما اشتدت وطأتها وتشعبت معطياتها.

ولا نبالغ في الامر إذا ما وضعنا مقارنة، حتى وإن كانت بعيدة الحدود، مع ما حدث في روسيا وما يحدث في العراق، ومدى سعة عقول الساسة العراقيين وتقبلها لمعطيات هذه الدروس وكل ما ترتب عليها سلباً وإيجاباً.

في مقدمة هذه الدروس يبرز امامنا، وبدون اية تحليلات وتفسيرات بيزنطية، ان كيان الدولة ورسوخ مؤسساتها وثبات مسيرتها تجعل من الأزمات احداثاً يمكن التعامل معها انطلاقا من هذا الكيان الراسخ للدولة باعتبارها الراعية الوحيدة لمواطنيها من خلال تعاملها مع كل ما يؤكد هذه الرعاية ويصب في سبل تنفيذها من خلال القوانين والتعليمات التي تضمن ذلك. وهذا يعني من الناحية الاخرى ان هذه الدولة وكل مؤسساتها تشكل وحدة متماسكة تواجه ما يتعرض له المواطنون وامنهم واستقراهم من منغصات قد تكون خطرة جداً احياناً. وهذا ما تعرضت له روسيا في الأيام الماضية، حيث شكل التمرد العسكري لقوى ميليشياوية مرتزقة كانت تحارب الى جانب الجيش الروسي ثم انقلبت عليه لأسباب تفاوتت آراء المراقبين حولها، إلا ان ذلك لا اهمية له هنا في هذا الموضوع.

المهم جداً والذي ينبغي التعامل معه، وهذا هو الدرس الثاني الذي يجب ان نعتبر به من هذه الازمة والذي يمكن عكسه على الوضع في وطننا العراق، يتمثل بالدور الذي اعطاه بوتين لقوى مرتزقة لا مبادئ لها سوى الحصول على المال ولا هوية وطنية تربطها بالوطن الذي تقاتل في صفوفه اليوم ولا ضمان لعدم انقلابه عليه غداً، كما اشارت احداث روسيا في الايام الاخيرة الماضية.

والدرس الثالث الذي نتوقع ان بوتين قد استوعبه ينطلق من الإجراءات التي اتخذتها وزارة الدفاع الروسية بالإيعاز الى مقاتلي هذه المليشيات للانخراط في تنظيمات الجيش الروسي الرسمية والتعامل معهم كما يجري التعامل مع افراد الجيش الروسي الذين هم من منتسبي مؤسسة خاضعة للدولة وقوانينها وانظمتها الخدمية.

فما علاقة كل ذلك بالعراق ومؤسساته الرسمية التي تعكس كيان الدولة العراقية وطبيعة وجودها وسبل عملها؟

كل متابع جيد لما يجري في العراق اليوم ومنذ ان انهارت دكتاتورية البعثفاشية المقيتة، يدرك تماماً ان الدولة العراقية لا كيان متميز لها يشير الى تماسك مؤسساتها ووضوح مسيرتها وجدية التزامها بما تقوله اليوم وما تنفذه غداً. وكل متابع جيد يستطيع ان يؤكد ايضاً على ان هذه المسيرة ما هي إلا امتداد لمسيرة الدولة البعثفاشية التي اراد الغزو الأمريكي للعراق عام 2003 ان يضمن لها الاستمرار من خلال من اتى بهم من عملاءه ووضعهم على رأس السلطة السياسية مع تبديل طبيعة الدكتاتورية من سياسية الى دينية ـ عنصرية.

ولكي يتفادى سياسيو العراق الجدد، سياسيو الصدفة كما أطلقوا ذلك هم على أنفسهم، فقدان كيان الدولة في المعادلة السياسية الجديدة التي رسخت الطائفية والعنصرية والعشائرية والمناطقية، لجأوا الى استخدام التنظيمات العسكرية المليشياوية المرتزقة التي ضمت حتى مرتزقة البعثفاشية الذين سرعان ما خلعوا الزيتوني ليختفوا تحت عمائم وجُبب وبدلات المليشيات الجديدة التي اصبحت علامة فارقة وماركة مسجلة لدولة الإسلام السياسي والتعصب القومي الفاشي في عراق ما بعد 2003.

الدروس التي قدمتها احداث روسيا الأخيرة ربما جعلت بوتين يراجع مواقفه الخاطئة بتوظيف المليشيات وإشغالها بمهمات وطنية بحتة، إذ ان هذه المليشيات لا وطن لها غير المال، لذلك كان قراره بدمجها في قوات الدولة العسكرية والأمنية الرسمية.

الدولة العراقية التي تستند في بلورة كيانها ومؤسساتها على مليشيات وتنظيمات عسكرية اثبتت، ومن خلال تصريحات بعض قادة هذه المليشيات بأنهم يأتمرون بما يفرضه عليهم سادتهم خارج العراق، لا يمكنها ان تكون في موقع يتيح لها ان تحافظ على وطننا واهله وخيراته بالشكل الذي يقي من ويلات ازمة كالأزمة التي مرت بها روسيا في الايام الأخيرة. المنظمات التي تحمل السلاح في وطننا والتي لا تخضع لأية مؤسسة من مؤسسات الدولة والتي تمارس العنف بما تملكه من الأسلحة حتى الثقيلة منها، لا يهمها المواطن العراقي ولا امنه واستقرار وطنه، بقدر ما يهمها تنفيذ اجندة سادتها خارج الوطن والخضوع لأوامر قادتها الذين هم بدورهم حفنة من العملاء الذين لا يعترفون بالهوية العراقية اصلاً، حتى وإن تبجحوا بها زوراً وبهتنانا.

لذلك فإن عقول سياسيي العراق الضامرة سوف لن تستوعب ابعاد الدروس التي تبلورت لدى الساسة الروس فلجأوا الى تصحيح مواقفهم من المرتزقة ومنظماتهم الإجرامية.

عرض مقالات: