هذه المَدِيْنةُ عَجيبةٌ
ضُرِبَتْ بالقنابل
سُحِقَتْ تَحتَ الأقْدام
كما تُسْحَقُ سَاعةٌ مُعَطَّلةْ
لكنَّها
وكَما لَو وُلِدَتْ للتَّو
سُمِعَتْ تَحتَ الأنْقاض تَتِكُّ
وَتَتَحَسسُّ قَلْبهَا
واوصَالَها المَفْقودة

مدينَة
في حالة حلم وهذيان
يَحْفظُ أشْعَارَها التَاريْخُ عن ظَهر قَلب
بُيوتُهَا مُهَدَّمَة
وَشَوارعُهَا مَهْجورَة
لكنَّ أعْلامهَا المُلوَّنَة
المُسْتَسْلمَة لِنَسَائم نيسَان
المُثَبَتَة فَوقَ السُطُوح
تَخْفقُ تَحْتَ الشَمس
بثياب القديسين والملائكة

مَديْنَةٌ عَجيْبَة
تقَع في الجَانب المُشْرقِ من الشَمس
جسْمُهَا مُلتَهب
وَحَرَارتُهَا عَاليَة
مُصَابَةٌ بأحلامِ الزمن القَادم
في أعْماقِهَا غَضَب وَجُوع وَبكاءٌ وَصَريْرٌ أسْنان
يبحث عنها التاريخ
ويَؤمُهَا الأنْبيَاءُ والشُعَرَاءُ وَالعُشَّاق واللصُوصُ
البَرَابرَة وَالغُزَاة وَتُجّارُ الحُرُوب
في كُلَّ مَرَّةٍ يُظَنُّ أنَّهَا انتَهَت
تُطْلقُ من أعْمَاقهَا صَرْخَةً طَويْلَة
تَسْري في الأثير مثل مَوْجٍ مًتَكَسِّر
"
أكون أو لا أكون "
أموتُ أو لا أموت
تلْك هي المَسْألَة

يَوم أمس
تلاميذُ مَدرَسَة المَنصُورالإبْتِدائِيَّة
شَيَاطيْنُ كُرَة القَدَم المَلاعيْن
على مَبْعَدَة أمْتَارمنْ دُكانِ الحَلاق جَاسِم تاـسود
نَجوا مِنْ قَصْفٍ كَالجَحيْم
هَلَلوا في الزُقاق المُجَاور
لِضَربَةِ جَزَاء
شقّتْ الهَوَاءَ البَارِدَ
عبَرَتْ السُطوُحَ
إجْتَازتْ أعْمِدَةَ التِلفِزيون وَحِبَالَ الغَسيْل
وَأنْزَلَتْ كَارثـَةً جَدِيْدَة
في نَـَافِذَةِ الجِـِيْرَان

وفي البَيتِ المُجاورِ
غنّى راديو قَديم أسْنَأنُهُ منخورةٍ
أغْنيَة " تعْطَشْ وَشَرْبك مَاي
بثْنين ايديَّة "
لمُطْرب الريْف الأول حضيري أبو عَزيْز
أعْقَبهُ مُذيْعٌ شاب
قَرَأ اخْبارالسَاعَة الخَامِسَة
حَسَبَ تَوقيْت غرينِتْش
بدون أخْطَاء نَحْويَّة هَذهِ المَرَّة
معْتَذرَاً
عن تَغْييرٍ بَسيْطٍ
في مَوعدِ نشرة الأخْبار

وفي مَقْهى أبو بْرَاهِيْم
او مَقْهى المُعَقَديْن بالأحرى
الغَاص ،كَعَادَتِهِ
بِصُنُوفٍ مِنْ عَاطِليْن شَبَاب ، شُعَرَاء وعُشَّاقِ كُتُب وَجُنُودِ
اشْتَبكتْ حَنَاجِر مُلْتَهبة
ألهَبَها حَرُّ الصَيف القائِظ
في نٍقاشٍ حَار
عن التفكيك والبنيَويَّة والحَداثَة
عن إبْرَاهيْم الجَعْفَري
عن فوكاياما
وهنتنغتون
و"نِهايَة التَاريخ"
وَأيْضاً
حَوْلَ قَصِيْدَةِ نَثْر دَادَائيَّة
صَاحِبُهَا المُسْتَعِد لِكُلَّ عِرَاك
بَعْدَ أنْ طَرَح من يَدِه الدوُشَش
ثمَّ أسْهَبَ في شَرحِ مَا في مَتْنهَا من حُمُوُلات
وبزَعَمَ أنَّ جنسها وَحيْدٌ في نَوْعهِ
وَفَرَادَتَهَا غَيرُ مَسْبوقة
كَادَ أن يَشْتَبكَ بالأيادي
مَعَ منافس غريْم
ادعى أنَّهَا هُرَاءٌ مَحض
وَأنَّهَا مُسْتَوْرَدَة
ومن مُخَلَّفات " إنفلوَنْزا الطُيُور"
ولَيْسَ بَعيْدَاً عن جِسْرِ بابِ المُعَظَّم
قَريْبَاً من وزارَة الدِفاع
سيّاراتٌ مارقةٌ خَطفَت
بِآُمِ عَيْني رأيتها تَطيرُ
عَبْرَ الطَريقَ الاسْفلتي
وبِداخِلها عروسٌ بَتُول
ستَفْقِدُ بَكارتَها هذه الليلةْ
على صِياح الجُمهُورالكَريم
على ضَرب الدرابك والابْواق النحَاسِيَّة
وبِقِيَادَة موسِيْقَارالاجيال
عَباس ابو الهُوب

وَفي السَاعَة الثَاليَة مَسَاءً
وبالضَبط بَعْدَ انتهَاء الغَارَة الجَوِّيَة الأخيرَة
أمَامَ أطْفالٍ تَجَمْهرُوا حولَهُ
وَتَقَافَزوا مُتَصايحين على الأسرَّة
عُصْفورٌ هنْدي ٌمُمَشَطُ الذَيْل
بغُرورً تَسَلَّق غُصْنَهُ الصنَاعي
وَغَنّى لجُمهورهِ أغنيَة عَرَبية
مُخْتَالاُ بذَيْلِه الأخْضّر الطَويل

مَدينَةٌ شَرْقيَّة
مَدينَةٌ مَجنُونَة
آهِلَّتها دَائمَاً ثَمِلَة
منائرها دَائمَاً سكرانة
وكَمَا أسْلَفْتُ
مَديَنَةٌعَجيبة
يَبْحَثُ عَنْها القَنّاصُون والعشّاق والقَتَلَة
الغَربُ وَالشَرْق
الشَمَالُ والجَنوب
تَتَعَرَّضُ يَوميَّاً للقَصْف
دونَ أن أن تَفْقدَ التَوازُن
وَبرغْمِ تَحْذيْر النسَاء للرجأل هَمْسَاً أثْنَاء الليْل
مَخَافَةَ استيْقَاظ الأطفال
فَإنّ هؤلاء ، بلا طَائل ،
يُشَددون الإمْسَاكَ باللجَام
ودونَ تَوَقُفٍ
يُواصلون التَنَاسُل

مَدينَةٌ من أجْمَل مُدُن العَالَم
وَمَعَ أنَّهَا ، للتَّو ، ضُربَت بالقنابل
وسُحِقَتْ تَحتَ الأقْدام
كما تُسْحَقُ سَاعةٌ مُعَطَّلةْ
لكنَّها
وكَما لَو لتَّوهَا وُلِدَتْ
سُمِعَتْ تَتَحَرَّك تَحتَ الأنْقاض
وَسُمِعَ صَوت بُلْبُل ألأذَاعة
بِكلِّ ما تَبَقّى لَهَ من قُوَّة
بِكُلِّ مَا تَبَقّى من أنْفَاسْ
من تَحتَ الأنْقاض يتِكُّ
مُرْسلاً للعَالَم وللأجْيْال القادمَة
شَفْرَاتٍ وَإشَارَات وَرُموز
وَعَلى أجْنِحَةِ ضَوءٍ مُتَكَسّرٍ
هُنا بَغداد....
هُنا بَغداد
هُنا بَغداد