رسم الفنان منظرًا مستلًا من الطبيعة، وأول ما يتبادر الى ذهن المشاهد، أن المنظر انطباعي، لكن الرسام يرى غير ذلك، بالرغم من التماثل بين المنظر الفني والطبيعة، ثم عاد المشاهد ثانية الى رؤية المنظر، بعد أن تأمله بعض الوقت، فقال ربما تشبه اللوحة المنظر الطبيعي، ولكن الفرق - يقول الفنان للمشاهد -  بين المنظرين، أن أحدهما طبيعي يمكن تحسسه ورؤيته والتجول في أبعاده، ويمكن شراؤه أو زراعته، إضافة إلى أنه يملك مساحة معينة، وأفقا ومستويات رؤية، بينما لا يملكها منظر اللوحة  الفنية  بكامل تفاصيله الفنية ، وأن بدا محاكاة للمنظر الطبيعي.

 كانت هذه أولى احساسات المشاهد العادية باللوحة التي قال عنها أول الأمر: انطباعية، أي ثمة فرق بين ان يكون المنظر بأشيائه الحية، المحسوسة، وأن يكون المنظر مرسوما بالوان تشبه الوانه الطبيعية، ولكن بإحساس الإدراك للفينة، لم يقف المشاهد العادي كثيرا عند مفهوم التماثل والمحاكاة والتشابه وما إلى ذلك، بين ما هو طبيعي وما هو فني، بالرغم من ضرورته لدى المشاهدين الذين يعاينون اللوحة لأول مرة. لكن مشاهدة اية لوحة، لا بد لها  من ثقافة فنية  أولية للمشاهد، إذ لا يمكنك أن تستمع بالغناء دون فهم بسيط للصوت، ولا يمكنك أن تشاهد فلما إذا لم تعرف أنه فن، وليس واقعا، وإلا لا معنى أن تبدي رأيا ما دون الخبرة الفنية.

ابتعد المشاهد قليلا عن اعطاء أي حكم بعد ما اكتشف أن رؤيته اللوحة توقفت عند سطحها، ولما أمعن النظر ثانية واقترب منها، وحاول أن يتحسس سطحها، ومستويات الكثافة اللونية والخطوط الفاصلة بين الألوان، اكتشف أن الألوان لم تكن بمستوى واحد من الكثافة والمساحة والتدرجات، ثمة مستويات عديدة تستبطن اللون على السطح، كما لو كان سطح اللوحة من طبقات زمنية عديدة، يدل الرسام بها على تاريخ ما قديم وقد جيء به الى الحاضر، أو أن زمنا ما أو تفاعلات مختلفة مر بها الفنان، جيء بها لتكون الوانا بكثافة متغيرة تبعا لأحاسيس الفنان بالثقل والخفة، فما في داخل الفنان لايمكن الوصول إليه من المشاهدة العادية حتى لو كانت لوحته تحاكي الطبيعة، وعندما اكتشف المشاهد أن هذا المستوى من الرؤية، يعيد تاريخ اللوحة وتدرجات ألوانها وتشابك خطوطها زمنيا، ايقن أن رؤية اللوحة الفنية تحتاج إلى ثقافة بالألوان والكتل والخطوط، وطبقات اللون وتدرجات الكثافته، فاكتشف المشاهد أن ليس كل سطح للوحة بمثل ما هو في بقعة طبيعية، أو بتكوين جزئي منها، ثمة اختلاف جذري بين فضاءات اللوحة وفضاءات الطبيعة، فحين يتعامل الضوء مع الاثنين يتعامل بتدرجات منحتها قيما زمنية ومكانية للطبيعة وللوحة،  وبالتأكيد ليست قيم الضوء الطبيعي بمثل قيم الضوء اللوني، ليقرر المشاهد أن اللوحة ليست انطباعية حينما يكون المشهد طبيعيًا، اي المشهد الذي يمكن السيطرة عليه برؤية الحواس، أو تصويره فوتوغرافيا، أو معاينته بالعين الطبيعية، فاللوحة شكل مختزل لاشكال الطبيعة، بحاجة إلى عين فنية، لذلك لا يمكن رؤية العمل الفني دون فكر، فالرؤية لها قوتها المعرفية التي تميز بين حقل أصفر مشبع بالخضرة في لوحة فان كوخ، والحقل الاخضر الطبيعي المشبع بصفرة الخريف.

عرض مقالات: