رافق اصدار كتاب "اعترافات شيخ الشيوعيين العرب محمود أمين العالم" صدى هائل وتعليقات عديدة تحمل في ثناياها الاعجاب والاعتراض معاً على ادارة جريدة "الاحرار" القاهرية التي كانت تقف وراء هذا الاصدار. وكان اول المعترضين هو الاستاذ العالم نفسه حول ما ورد في تقديم هذه الاعترافات التي اجراها الصحفي سليمان الحكيم، اولاً، وما جرى من مغالاة وتجاوز في متن الاعترافات ثانياً، مما ازعج العالم كثيراً. وسنقف على ما جاء في هذا الاعتراض لاحقاً.

لا شك ان الاستاذ محمود امين العالم واحد من كبار الصانعين الفكريين للجيل العربي المعاصر. وبدون ان يكون مالئ الدنيا وشاغل الناس خلال النصف الثاني من القرن العشرين، فان كفاحه المعرفي والنضالي قد ترك اثراً دائماً لا في الثقافة العربية المعاصرة حسب، بل كذلك في كيفية قراءة المثقفين العرب ماضيَ الثقافة العربية كما حاضرَ الثقافة الغربية.

على انه لا بد ان نبادر حالا الى القول انه اذا كان محمود امين العالم قد ترك مثل ذلك الاثر القوي والدائم في مسار الثقافة العربية المعاصرة، فانه كان ضنينا متعففاً في سيرته الذاتية او مذكراته الشخصية، وكان معظم ما قدمه تأليفاً ونقدا وتنظيراً ودراسة منصبا على ابداع وتفكير الآخرين، يحمل لهم مثلما يحمل لمنجزاتهم حبا عظيما وتقديرا خالصا حتى وان كانت رؤيته العلمية ومنهجه الماركسي المعلن يتقاطعان معهم.

كان اسم محمود امين العالم بالنسبة لجيلي ونحن نخطو خطواتنا الاولى في تثقيف انفسنا في اوائل السبعينات اسما لامعا ومثيرا للاهتمام على الفور. وكانت كتاباته النقدية في الرواية والمسرح، بل حتى معاركه الفكرية الشهيرة مع طه حسين والعقاد ومصطفى محمود وعبد الرحمن بدوي ورشاد رشدي وزكي نجيب محمود، فتحا كبيرا وقفزة رائعة في مبدأ الاختلاف والائتلاف معاً، فهو ملتزم دون ان يكون متزمتا، هادف وممتع في الوقت نفسه، راقٍ دون تعال على الآخرين، شديد الحساسية لمشاكل الناس دون ان يتملقهم. وقد ظل العالم على هذه الحال في كل ما تولاه من اعمال ومسؤوليات ومناظرات.

ولد محمود امين العالم في 18 شباط عام 1922 في حارة الكحكيين في الدرب الاحمر اكثر الاحياء الشعبية قدما في القاهرة، وكشأن كل ابناء جيله في ذلك الوقت التحق بمدرسة الكتاب الشيوخ ليتلقى مبادئ القراءة والكتابة قبل ان ينتقل الى المدرسة الرسمية. ثم انتقل بعد ذلك الى مدرسة النحاسين الابتدائية على مقربة من جامع الحسين، وقد علم بعد ذلك ان جمال عبد الناصر كان معه في المدرسة نفسهاوان كان يسبقه بعامين. وفي هذا الصدد يقول:"ربما التقينا ولكني لم أكن اعرفه.. وربما لم التق به بالمرة". ولكن النحاسين كانت مدرسة بمصروفات، وكان والده يعجز دائما عن توفيرها في كل عام فيلجأ الى الاقتراض من بعض اصدقائه ليتمكن ابنه من مواصلة الدراسة.

الدرب الاحمر سبق الماركسية

لقد لعب حي الدرب الاحمر الدور الاساسي في تكوينه ونشأته الاولى قبل ان يختار الماركسية منهجا لحياته كلها.. ولكنه تطبع بذلك الطابع الشعبي الذي يميزه، وفيه قضى الثلاثين عاماً الاولى من عمره متجولا في كل حواريه وازقته ومنعطفاته، مصليا في كل مساجده وممارسا عاداته وتقاليده. فهو حي البروليتاريا في القاهرة القديمة –كما يقول العالم – وقد اكتسب كل شارع فيه اسمه من الحِرَفِ والصناعات، فكان شارع النحاسين نسبة الى عمال النحاس، وشارع الخيامية نسبة لصناع الخيام وشارع الفحامين نسبة لعمال الفحم وشارع الصاغة نسبة لصناع المشغولات الذهبية.. وهكذا.

كم كان جميلا ذلك العصر، ولكنه بالطبع لم يكن من الممكن ان يدوم. لقد لعب شقيقاه محمد واحمد امين "الكفيف" الدور الرئيس في ثقافته الاولى، وهما طالبان ازهريان لهما مكتبة زاخرة بالكتب الدينية والفقهية والفلسفية، فضلا عن كتاب نيتشه الشهير "هكذا تكلم زرادشت" الذي اثر تأثيراً بالغاً في عقليته، حتى انه قرر التخصص في دراسة الفلسفة بعد الانتهاء من قراءته.

اما عن تكوينه السياسي، فيذكر العالم ان اول تظاهرة تفتحت عيناه عليها عام 1930 وهو لم يبلغ من العمر بعد سن الثامنة. كانت مصر كلها تعج بالتظاهرات التي يقودها حزب الوفد ضد سياسة صدقي باشا رئيس الوزراء وقتذاك.وقد اعتقل شقيقه محمد في ذلك العام لانه كان يطالب مع الجماهير "بالاستقلال التام او الموت الزؤام". وكان اعتقال هذا الشقيق من الامور الشاذة في اسرة العالم التي لم يكن لها اية اهتمامات سياسية، فقد كان كل اهتمامها بالدين، ولعلها اكتسبت لقب "العالم" من اشتغال معظم افرادها بالدين. فقد كان والده رجل دين وكذلك شقيقاه، وكان مقدراً له ان يكون رجل دين ايضا لولا طبيعته المتمردة وحبه الفلسفة والتأمل.

هذا التفكير المضاد تجلى، أول ما تجلى بدخول قسم الفلسفة في الجامعة المصرية وارتباط العالم بعلاقة وثيقة مع بعض اساتذته خاصة الدكتور يوسف مراد. اما الدكتور عبد الرحمن بدوي الذي من اجله دخل قسم الفلسفة، فقد كان اكثر اساتذته حظا من نفوره، رغم ان العالم كان مليئاً بالتجربة الوجودية الهيغلية النيتشوية، وهي تجربة عبد الرحمن بدوي نفسه، الا ان طبيعته "البدوي" الاستعلائية المؤمنة بأخلاق السادة واخلاق العبيد جعلت العالم ينفر منه، مع اختلافه ايضا مع بعض الماركسيين في الجامعة، لانهم كانوا في ذلك الوقت يثيرون بعض الافكار ذات الطابع الاخلاقي التي لم يكن له  ان يتقبلها وهو ابن الحارة المصرية الشعبية والبيئة الدينية، حتى ان معرفته بلويس عوض لم تدم طويلا لان الاخير كان يقدم له المادية والماركسية بشكل غامض وملتبس. وهكذا اصبح ممزقا بين مثاليته ووجوديته من ناحية وبين ايمانه بالافكار التي تشربها من الجو الديني الذي عاشه في ما سبق.

المادية والنقد التجريبي

في غمرة هذه الارهاصات يقع كتاب لينين الشهير "المادية والنقد التجريبي" بين يدي العالم ليحدث التحول في حياته كلها، فيقرر تغيير رسالة الماجستير التي كان اعدها على اساس مثالي عن نظرية المصادفة في الفيزياء المعاصرة الى نظرية المصادفة على اساس موضوعي. لقد ساعده هذا الكتاب على اكتشاف الاساس العلمي والموضوعي لكل شيء في العلم والسياسة والمجتمع والادب وقرر الانضمام الى الحركة الشيوعية.

ولأن الحزب الشيوعي المصري الذي كان علنياً حتى عام 1922 قد تعرض الى التصفية بفعل حكومة سعد زغلول الوفدية المدعومة من الانكليز، فقد دخل في السجن من دخل وهرب من هرب ونزل تحت الارض من نزل، فلم يعد الحزب كما كان، بل انبثقت منه حركات شيوعية وماركسية كثيرة كما تولدت تنظيمات مستقلة، منها تنظيم "حدتو" او حركة التحرر الوطني، وطليعة العمال، وحركة "نحشم" ونوادي الحزب الشيوعي. وفي هذه الفترة بالذات ظهر اليهود المصريون في تلك الاحزاب ومنهم يوسف درويش واحمد صادق سعد والدويك في طليعة العمال. اما هنري كوريل وهو اليهودي المصري ذو الاصل الايطالي فقد كان على رأس "حدتو".

وهكذا يجد العالم ضالته في حزب شيوعي صغير اسمه نواة الحزب الشيوعي المصري "نحشم" بقيادة اليهودي فوزي جرجس. ولعل المفارقة الساخرة في هذا الحزب انه كان يهدف الى تطهير الحركة الشيوعية المصرية من اليهود، ليس لأنهم يهود – كما يقول محمود العالم – ولكن لأن اليهود لا يمكن ان يقودوا الشعب المصري، بل ربما عرقلوا الحركة وساهموا في تأخيرها وعزلها عن الجماهير التي كان كرهها اليهود في ذلك الوقت قد بلغ اوجه، بسبب احتلالهم فلسطين. وكان الهدف الثاني لنواة الحزب الشيوعي المصري هو "تمصير" الحركة الشيوعية وتوحيدها بمحاولة تجاوز نقاط الخلاف ذات الطابع النظري في اغلبها بين اكثر من ثلاثة عشر تنظيماً شيوعياً على الساحة المصرية في ذلك الوقت.

ويذكر العالم فضيلة فوزي جرجس في قيادة التنظيم الذي انتسب اليه، كعامل يبيع قطع غيار السيارات، له كتاب من افضل الكتب التي أرّخت لمصر اسمه "تاريخ مصر القومي" رغم ان هذا الرجل لم يتلق في حياته اي قدر من التعليم الرسمي، ولكنه كان عصامياً حين علم نفسه بنفسه، واصبح من كبار المثقفين في الحركة الشيوعية المصرية.

امين العالم وشهدي عطية

هكذا يمضي محمود امين العالم بمعية الشهيد شهدي عطية بعملية التوحيد، رغم ان قيادات تلك الفصائل في السجن كانت ضد عملية التوحيد. وقد ساعدهما في هذه العملية هروب معظم – ان لم يكن كل اليهود – بعد ان استشعروا الخطر من ثورة يوليو وقادتها الذين كان معظمهم قد عاد لتوه من فلسطين بعد محارية اليهود فيها، وكانت كل المؤشرات – برأي العالم – تقول ان هؤلاء الضباط قد عادوا الى مصر ليصفوا حساباتهم مع اليهود واعوانهم في الداخل. ولهذا لم يجد العالم وعطية كبير عناء في عملية التوحيد التي كانا يدعوان اليها منذ زمن بعيد، خصوصا بعد اندلاع ثورة الضباط الاحرار في يوليو 1952. إذ لم يمر عام 1956 حتى نجح الاثنان في اقناع قيادات فصائل الحزب الشيوعي المصري بالانضمام الى "نحشم". وفي عام 1957 نجحا ايضا في ضم حزب الطليعة في عملية الدمج والتوحيد. وقد توج هذا التوحيدلأول مرة في مصر بانعقاد اول مؤتمر عام لحزب شيوعي واحد.

ثمة اعترافات متعددة للعالم حول الكثير من القضايا الفكرية والتنظيمية والحياتية. منها علاقة الحزب الشيوعي المصري بالثورة العراقية عام 1958 واعتبار ان موقف العراق وعبد الكريم قاسم هو الاقرب الى موقفه من قضية الوحدة، حينما كان يطالب بأن يحتفظ كل اقليم بخصائصه الوطنية داخل اطار كونفدرالي، بينما كان عبد الناصر يرى ضرورة الوحدة الاندماجية تحت زعامته.

حائط السجن

شاشة سينما

وعن حياة السجون التي تعرض اليها العالم لمرتين متتاليتين في عهد عبد الناصر، يقول:"يقف السجين لساعات طوال امام الحائط ضمن حالة من حالات التعذيب، كنت أحول الحائط الى شاشة سينما، فأحول الحائط وأضع مكانه عالما من الحواديت والقصص والالوان والفلسفات والرؤى، فكنت اهزم الحائط بالحلم والتجاوز، وابعده عني لأتحول انا نفسي الى جدار!".

كانت للعالم مشكلات مع اليمين وكتّابه، مشكلات متوقعة وطبيعية. اما مشكلاته مع كتّاب اليسار فهي التي كانت غير طبيعية او هكذا يجب ان تكون، وخاصة مع عبد الرحمن الشرقاوي الذي كان معه على صداقة عميقة منذ الاربعينات. وجوهر هذه المشكلة ان الاخير كان ينتمي الى حزب الطليعة الشيوعي، وقد وافق هو ايضاً على حل هذا الحزب والدخول في التنظيم الموحد، ورغم ذلك فانه هاجم في مسرحيته "الفتى مهران" الشيوعيين الذين وافقوا على حل الحزب في الستينات والانضمام الى "الاتحاد الاشتراكي العربي" تحت خيمة القيادة العسكرية المصرية.

اعترافات محمود امين العالم اذن سيرة ذاتية لمفكر كبير، ولكنه لم يخطها بقلمه بل قالها مشافهة من دون ترتيب او اهتمام باللغة، ولعل معظمها قيل بلغة تتراوح بين العامية والفصحى، ثم دونها سليمان الحكيم وصنفها، وصاغ العامي منها بالفصحى. ولهذا لم يظفر القارئ – كما احسب – بعمل رفيع المستوى شأن اعمال العالم الاخرى، وهو ما افضى الى بعض التجاوز في جوانب الحديث المنشور، وهذا ما دفع العالم الى تدقيق الكثير مما جاء فيه، متوقفا عند تسع نقاط مهمة احتراما للقارئ وحرصا للحقيقة، خصوصا ما جاء من مغالاة في المانشيتات وتجاوز على ما جاء على اللسان في المتن، مما ازعج محمود العالم والقراء معا قبل مناقلتها من الجريدة المذكورة الى كتاب من اصدارات مدبولي.