مشاعر ملتبسة كانت تجتاحني، كلما تعرضت لتساؤل البعض، عما إذا كانت قناعة المرء بالشيوعية لا تتأثر بما حدث من تجاوزات خطيرة على الحريات في بعض دول أوربا الشرقية. غير أن تلك المشاعر لم تلبث أن تبددت، بعد أن منحتني، قراءات مكثفة وحوارات جادة، عن الجوهر الديمقراطي للماركسية، ما يطمئن القلب وينعش الروح.

علاقة الماركسية بالحرية

وقبل الحديث عن هذا الجوهر، يبدو مهما التطرق الى الإتجاهات الرئيسية الثلاثة لفهم الحرية، حيث يرى الأول منها أن الحرية هي تحرير الذات بناءً على القوة الداخلية للنفس دون أي تأثر بالظروف الخارجية، ولهذا فالحرية مطلقة وعليها تُبنى المسؤولية. أما الرأي الثاني فيرى الإنسان مسيرا وغير مخير، وأن العوامل الخارجية هي التي تحدد حريته وتتحكم بإرادته. ويعود للفيلسوف الأسباني سبينوزا الفضل في الكشف عن الإتجاه الثالث الذي يعتقد بأن الحرية هي الضرورة حين تصبح وعياً. فما دامت الحرية، التي هي نزوع إنساني محض، تواجه تأثيرات قوى مستقلة عن وعي الإنسان (سُميت بالضرورة)، فإنها تخضع بشكل ما لتأثيرات هذه القوى. وقد رأى هيغل بأن هناك وحدة جدلية بين الحرية والضرورة، حيث تأتي حرية الإنسان وإرادته من الأخيرة.

وإختلف ماركس مع هذا الأمر، في ما بعد، معتبرا الحرية إدراكا للضرورة، وليست إشتقاقا منها، حين قال أن حرية الإنسان تكمن في قدرته على إستيعاب الضرورة، أي إستيعاب مجموعة القوانين الطبيعة والإجتماعية التي تعمل بشكل موضوعي، ومن ثم قيامه بتوظيفها. وبما إن الوعي الإجتماعي هو نتاج للوجود الإجتماعي، حسب ماركس، فإن وعي الضرورة (الحرية) ينمو مع إكتشاف الإنسان للظواهر المميزة في الطبيعة والمجتمع، ثم ما يلبث هذا الوعي أن  يُنفى ويستبدل بأشكال جديدة، تُنفى وتستبدل وهكذا، حتى تقام مملكة الحرية، المجتمع الشيوعي.

من هنا تكون العلاقة بين الديمقراطية والحرية علاقة وحدة وصراع بين الشكل والمضمون، حيث تنمو الحرية وتزدهر في إطارها التاريخي المحدد، الذي هو شكل الديمقراطية السائد، حتى يصبح هذا الشكل قيدا يحد من الحرية، فتبرز الحاجة للنضال من أجل إستبدال هذا الشكل بشكل جديد، وعندما ينجح هذا النضال، يتحقق للناس مستوى أرقى لحريتهم.

وكان ماركس أول من فضح تخلف الشكل الديمقراطي البرجوازي للحرية وتحوله الى عائق يحد من تطورها، حين كشف عن الإغتراب في المجتمع الرأسمالي وفسره، مشيرا الى أن العلاقات الرأسمالية المقامة على الملكية الخاصة، تفقد الإنسان سيطرته على عمله، سواء في اختيار العمل او في تنفيذه او في إمتلاك نتاجه او في التمتع بجوهره الانساني، وبالتالي تفقده القدرة على التفكير او على تقرير المصير وعلى توظيف الضرورة لصالحه، أي تفقده حريته، فيغترب عن المجتمع.

ولهذا دعا ماركس الى ديمقراطية أرقى، ليتواصل تطور الحرية، ديمقراطية تقوم على تحرير المجتمع من أشكال الاستغلال الطبقي وتنمية طاقات الفرد وقدراته الذاتية الخلاقة خارج ميدان العمل الاقتصادي، ديمقراطية تنهي العبودية الجديدة التي خلقها الإعتماد على السوق، مؤكداً على أن الطبقة العاملة لوحدها، المؤهلة تاريخياً، لا لتحرير نفسها فحسب، بل والمجتمع كله من هذه العبودية.

 الديمقراطية الإشتراكية واقع أم خرافة

وإنسجاما مع معنى الحرية الذي أشرت اليه، سيكون المجتمع الاشتراكي اكثر حرية من النظلم الرأسمالي، واشكال الحرية فيه أكثر تطوراً عما هو موجود في الرأسمالية، لأن أشكال الحرية في الإشتراكية تنفي الاشكال السائدة في الرأسمالية نفيا ديالكتيكياً، بمعنى إضافة تغييرات كمية تخلق تغييراً نوعيأ. ومن أبرز هذه الإضافات اعطاء الديمقراطية بعدا اجتماعيا وتحرير البشر تدريجيا من الخوف والغاء مبدأ التمثيل السياسي وإستبداله بالتشاركية العمالية.

ورأى ماركس وانجلز أن الكفاح من اجل الحقوق الديمقراطية هو جزء من الصراع الطبقي، ومع تطوره تسعى البرجوازية، للتخلص من عبء الديمقراطية، فيما يتمسك الناس بقيادة الطبقة العاملة بها، ويسعون لبناء بديل ديمقراطي أسماه ماركس “حركة الغالبية العظمى لصالح الغالبية العظمى”. وهكذا فكر البلاشفة تماماً في البداية، فأبدعوا في تطوير المجالس الشعبية، السوفيتات، كبديل ديمقراطي عن البرلمان، ومنحوها جميع السلطات، وأمّنوا الحقوق المدنية وألغوا عقوبة الإعدام وإحترموا حرية التعبير والنشر والتنظيم.

وكان لعدم إستمرار هذا النهج البلشفي، أسباب ذاتية وموضوعية، لاعلاقة لها بالفكر الماركسي، وإنما حدثت جراء تفضيل مهمة صيانة النظام الجديد على الشكل الديمقراطي الإشتراكي للحرية. فبعد المشاكل التي نتجت عن التخلف المهني والتقني والعددي الذي كانت تعاني منه البروليتاريا الروسية، والفشل في تنفيذ الخطط الصناعية والزراعية، وعدم تحصين النظام ضد البيروقراطية، ووقوع الحرب الأهلية والعدوان الخارجي، جرى فرض قيود على الديمقراطية والحريات العمالية وسُلب قرار البروليتاريا الحر وتم الحكم بإسمها، وهو ما تحول الى مأساة في الفترة الستالينية، وضعت له تعليلات فكرية غريبة عن جوهر الماركسية.

هل في تاريخ اليسار ما يعيب؟

لليسار تاريخ طويل ومشرف، لا يخجل منه سوى أولئك الذين يفتقدون للمعارف الكافية عن الإشتراكية، أو الذين سرى الوهن في مفاصلهم فانتقلوا الى ضفة الخصوم أو كانت موائد الآخرين أدسم لهم. فالزعيق الذي يعلو كل يوم في الغرب وهو يقرن الشيوعية بالإستبداد وإرتكاب المجازر، لا يبدو مقنعا حتى لأصحابه، لأن الفكر الماركسي ببساطة، دعوة الى إستبدال المجتمع البورجوازي بطبقاته وصراعاته، بمجتمع أخر يكون فيه التطور الحر لكل فرد، شرطا أساسيا للتنمية الحرة للجميع. كما يدعو الفكر الماركسي بوضوح الى التحول الديمقراطي السلمي نحو الإشتراكية، وبناء مجتمع يقدم كل فرد فيه حسب قدرته ويأخذ حسب حاجته. فهل في هذا إستبداد وقتل، وهل يصدق نفسه، من يصف فكرة تدعو الى مجتمع خال من الطبقات المتصارعة، مجتمع تتحقق فيه جميع حقوق الإنسان لجميع الناس، بالفكرة الإستبدادية القاتلة؟!

وإذا أقررنا بحدوث شيء من التهاون في مواجهة بعض التجاوزات على حقوق الإنسان، وبشكل مناف بالمطلق مع الفكرة الماركسية عن الحرية، فقد كان لهذا القصور ما يبرره، حيث لم يكن المرء مخيّرا في الصراع، بين دول تدعم التقدم والسلام وبين الرأسمالية المتوحشة وحروبها ونهبها للشعوب، وحيث بدا التضامن مع دولة الفقراء في صراعها مع قوى الشر، أسبق على ضمان جميع حقوق الإنسان، لاسيما في ظل توفر عدد لايستهان به من هذه الحقوق، كالحق في الحياة والسكن والتعليم والصحة والأمن الغذائي، وحيث كان الاتحاد السوفيتي، الأسبق تاريخيا في تحقيق دولة الرفاه وضمان حقوق النساء عن الدول الرأسمالية.

رمتني بدائها وانسلت

ويبدو غريباً حقاً أن يتهم البعض، الشيوعيين بموالاة دول افتقدت لبعض حقوق الإنسان، فيما يقضون اعمارهم وهم يتغنون بمديح أمريكا، التي كانت (ألم تزل كذلك؟) حتى وقت قصير تفصل حتى في باصات النقل بين البيض والسود وتطبق قوانين أقسى مما طبقه النازيون ضد المستضعفين؟ أو يتغنون بالديمقراطية الفرنسية التي قتلت في يوم واحد من عام 1945 عشرات الالاف من الجزائرين، أو يرون في لندن قبلتهم، فيما يشمئز حتى التاريخ نفسه من جرائم بريطانيا في مستعمراتها. ويبقى من سخرية القدر أن تتشدق البرجوازية البلجيكية بحقوق الإنسان، فيما لازالت بقايا أقفاص الحديقة، التي كانت تعرض فيها الأطفال السود، كما في حدائق الحيوان، شاخصة حتى الآن.

أن التغييرات التاريخية الكبرى لا تقاس فقط بأخطائها، بل بإنجازاتها. فرغم عدم وجود علاقة لستالين بالشيوعية، باعتقادي، لكني سأجافي الحقيقة إذا ما أنكرت دوره في تحرير البشرية من النازية. لقد كتب عدد من مالكي العبيد، إعلان استقلال أمريكا، وهم من ضمنوه الشعار القائل بأن «جميع الرجال خلقوا متساوين»، وهو الشعار الذي كان له تأثير تاريخي لايمكن تجاهله.

ولهذا ستبقى الإشتراكية حلماً حقيقياً ونبيلاً للبشرية، ويبقى حاضر وماضي اليسار مشرقا وبهيّا، فيما تواصل  الرأسمالية إستغلال البشر، حيث يملك 1 في المائة منهم 144 مرة أكثر من نصف سكان هذه الأرض، وهو النصف الأكثر تضررا من الأزمة الرأسمالية المتكررة ومن التغيير المناخي، من تجويع الناس وتخريب كوكبهم.

عرض مقالات: