ما أعنيه بصوت الموسيقى، ليس الاهتمام بالموسيقى في حياتنا الثقافية والفكرية فقط، وهو شرط ثقافي يجاور بقية شروط الثقافة الذاتية لكل شخص مبدع، إنما أعني إضافة إلى ذلك الإنتباه إلى صوت الموسيقى في كل الأشياء التي تشكل حياتنا اليومية، هذا الإيقاع الذي يشد أجزاء حياتنا اليومية باستجابة الجسد لها. مع تناغم الليل والنهار، العمل والراحة، جعل من حياتنا دون أن نعلم شيئا منظما بايقاعية صارمة، قد تصل أحيانا إلى ضبط الأوقات مكانيا، وبالرغم من أني أميل إلى هذا الإيقاع الكوني الذي يمارس حضوره على كل مفردات حياتنا، ارفضه عندما يكون مُقيدا للإبداع، فلا إيقاع يولد إيقاعا، ما يولده الإيقاع الكوني هو الحرية بين مفاصلة، ولذلك مثلا أميل الى قصيدة النثر الشعرية - وليس الى القصيدة الايقاعية المنظمة - لأنها منطلقة من منطقة ما بعد الإيقاع الكوني لحياتنا، الموسيقى بمعناها الكوني هي التي تنظم فضاءات أزمنتنا، وهي التي تعين مدى الحرية في هذه الحياة.

ها أنت تسير في الشارع، متنرنما ببعض الابيات الشعرية، او بمقولة بقيت من أحلام الليل، لتجد نفسك أن جسدك منتظم وايقاع الأرض، فإذا كانت الأرض مستوية جرى الإنتباه إلى دواخلك واحاسيسك الذاتية وربما بدأت بتأليف قصيدة او نواة لفكرة أو تخطيط لاسكيش لوجة، ولكن عندما تكون الأرض متعرجة وغير مستوية، سينصب اهتمامك على حركة القدمين مركزا فكرك على ايقاع الاستقامة والضبط، وتكون كل حواسك متجهة للعلاقة الخارجية لعمل توازن ايقاعي بين ان تسير دون وقوع، أو ان تسير بدراية وضبط. هذه الايقاعية الطبيعية شبة متوارثة في بنية اجسادنا، مصحوبة بالممارسة والتجربة ، فهي بنية موسيقية نشأت من العلاقة بين الجسد والعالم.

سنغور قليلا في المعرفة الفلسفية، التي غالبا ما نمارسها حياتيا بينما هي غائبة عن وعينا المباشر، لتجد أن ما ينظم علاقة الأحياء والاشياء في الحياة ليست وجودها في هذا المكان أو ذاك، بقدر ما يكون وجودها مرتبطا بالضرورة التي تحتمها الحياة عليها لأن تكون مفيدة او غير مفيدة، هذه الموسيقى الكونية البصرية هي جزء من ايقاع كوني ينظم العلاقة بين الإنسان وجودا والأشياء مادة مستثمرة لتحقيق هذا الوجود. خذ قراءة الكتاب، اليست القراءة منظومة موسيقية خفية تنظم علاقة الفكر بالحياة؟ يمكننا أن نبتعد قليلا عندما تفرض القراءة علينا نوعا من الفكر، نجد الدماغ يفرض علينا تقصي ابعاد هذا الفكر في انواع شتى من المعارف، لنجد أنفسنا غرقى في مصادر المعرفة الطبيعية قبل المصادر المؤلفة، فما نراه في الماء والنار والتراب والهواء ليس هو ما نقرأه عنهما في كتب روائية أو شعرية، ما نجده مفيدا لاجسامنا وعقولنا وتفكيرنا، هو أن نقرأ عن هذه العناصر في مصادرها الطبيعية، وفي دراسة لي عن الماء في شعر السياب، وجدت ان السياب استعمل اكثر من خمسين نوعا للماء، وهو لا يعرف من الماء في حدود علمنا البشري إلا ما هو طبيعي، فالشعر يولد من داخل أية بنية طبيعية عندما يزيحها عن طبيعيتها المألوفية.

ان ما ينظم علاقتنا بالأشياء والطبيعة هو تلك الموسيقى الكونية التي تقودنا إلى المعرفة حتى لو كنا نجهل ماهية الاشياء وتراكيبها والزمن الذي وجدت فيه، أن ما يقف خلف صناعة طاولة الكتابة من مهرة وصناع وعمال وأشجار وغابة وألوان، ونقل، وعمل، وأسواق، نجد مئات العمال المجهولين الذين نظموا لنا موسيقى كونية لالفة العمل اليومي مع الاشياء.

عرض مقالات: