غالبا ما تنطفئ جواهر الروح تدريجيا، تتنافر عناصرُها بصمت، فينفرطُ عقد تعلقي الجنيني بالستٍ والسبعين نبضة. نبض قلبي المذعور دائما، وتلك إشارة ظلَّتْ في خانة المُتنازع عليها داخل قفصي الصدري. ها هو شيطانها الشاطر يصحو في وقتي الضائع ويجرَّني بِرِجْسهِ لقبول دعوة مفاجئة، وجَّهَها لي أحد رواد المقهى لملاعبته الشطرنج.
-
دينار للفائز في الدست الواحد
كان "كاربوف" مدَّعيا معروفا، شاب لم تنبت لحيته بعد، يزعم أنه "كاربوف المدينة"، ويتمتع بمهارات في كل مركبات اللعب، ولديه رؤية تكتيكية ثاقبة في بلورة الأفضلية والتمكن بأسلوب مرن ومحكم. لكنَّه سرعان ما يمسك بطنه متظاهرا بهيجان آلام قرحة معدته، وهي نوبة ماكرة، طالما أسعفته من كل الخسائر، ومهَّدَتْ له الانسحاب من هزائم مؤكدة، في نهاية أيّ دست تلوِّحُ فيه نقلة "المات"، مقرونة بابتسامة الخصم.
وافقتُ على مواجهته، وفاجأته بمهاراتي في مناورات اللعب، وسرعان ما كسبتُ الدست، متخطيا بعناد مطالبته بالانسحاب بسبب آلام القرحة المزعومة. وحين طلب مني أن أمنحه فرصة أخرى، قبل دفع ثمن الرهان، وافقت أيضا، وهزمته بنقلات سريعة معدودة، رغم إلحاحه وتوسله بقبول انسحاب طارئ جديد.
ظل "كاربوف" يطلب الفرصة تلو الأخرى، وكنت أوافق في كل مرة على مضض، ثم أهزمه بسهولة. هزمته في أربع دسوت متتالية في غضون ساعة ونصف الساعة، وقبل أن يموت مَلِكَه "الكاربوفي" بنقلة قاتلة في الدست الخامس، تظاهر بانهياره الشديد، وعدم تمكنه من مقاومة آلام معدته، ولمَّح بالانسحاب. لكنه بهت من إصراري وعنادي على إتمام خطوتي الأخيرة، وتسليم الخمسة دنانير عدّا ونقدا.
صمتَ الشاب لبضع دقائق، ممتنعا عن اللعب. صمتٌ فاحت منه مراوغة صريحة، فشممتُ سوء مراده. لكنه دنا برأسه مني واسْتعْطفني هامسا: "هسّه قابل احتِرْگَتْ البصرة!؟ ارحمني يا رجل، الله يرحم والديك. مع هذا سأمنحك ما هو أثمن وأغلى من الخمسة دنانير. انظرْ إلى هذه الصحيفة، ستجد فيها ما يُفرحك"!
حدقتُ في صحيفة قديمة موضوعة إلى جانبه على التخت، ثم التفتُّ إليه، فضرب على كفي، وغمز بعينه، راسما بإصبعين مرتعشين شارة النصر وغادر المقهى.
سحبتُ الجريدة ببرود، وبملامح وجه جامدة. كنت حذرا من انزلاق شيء ما مخبأ فيها، فتركتها على غرار ثنيتها القديمة، وغادرت المقهى.
في زقاق مهجور باشرت بتصفّح الجريدة بسرعة. قرَّبتها من عينيَّ، قلبتها يمينا ويسارا، نفضتها بشدة، كررتُّ محاولاتي مرارا. لم أعثر على أيّ شيء بين طياتها، لكنني لمحت جملة قصيرة، مكتظة بالأخطاء، كتبها "كاربوف" بخط رديء على طرف الجريدة، وزعمَ أنها أثمن وأغلى من الخمسة دنانير التي لم أقبض فلسا منها.
قرأتُ الجملة سريعا، ثم ببطء، ثم تهجأتُ حروفها حرفا حرفا. لم أجد في تلك الأثمن والأغلى ما يُفرحني. أُطلقتُ قهقهة مرّة، ثم قرأتُها بأداء مسرحي مثير:
"
سأبقى كاربوف المدينة.. لن يهزمني أحد"!