ما هي الاسطورة؟

سؤال كثيراً ما طرحته الذائقة الإبداعية على نفسها وعلى الباحثين والدارسين، وقد تعددت الاجابات، وتنوعت، فشرّقت، وغرّبت، وقد كانت جميعها صائبة بقدر ما.
في هذه السطور لا أريد أن أقدم تعريفاً قديماً أو جديداً للأسطورة، ولا يمكن أن أعيد التعاريف السابقة التي قدمها الباحثون والدارسون لها، لأن ذلك خارج مهمة هذه الدراسة، ولكنني أريد أن أقدم مفهوماً يتوافق مع موضوع الرواية، وما فيها من أساطير.
لهذا فالأسطورة ببساطة هي: نتاج التفسير الساذج والبسيط للظواهر الكونية والاشخاص والاشياء في الحياة اليومية التي تعيشها الشعوب في أي مكان وزمان. وقد بدأ هذا التفسير منذ القِدم وما زال في الكثير من الاحيان يجد أرضاً خصبة له في تفكير الناس.
هذا مفهوم بسيط للأسطورة سنبحث عنه في مضان هذه الرواية لنرى المدى الذي وصلت له في التأثير المتبادل بينها وبين الرواية. وأيضاً مدى هيمنة طرف على الطرف الثاني، وهل كانت الأسطورة هي المهيمنة على اجواء الرواية، أم إن الرواية هي المهيمنة على الأسطورة والقائدة والموجهة لها لتظل واحدة من أساليب الرواية في طرح موضوعها وما فيها من أفكار؟
الكثير من الأعمال القصصية والروائية والشعرية، وكذلك المسرحية، يتم فيها الاعتماد على الأسطورة، إما ان تكون الأسطورة هي الحاضنة لفكرة ما يريد أن يوصلها الكاتب لقرائه، وإما أن تكون هذه الأسطورة في هذا العمل الإبداعي هي لحم وسدى ذلك العمل الادبي ولا تمتد خارج مجاله. أي أن يكون العمل الأدبي قد أتى لتقديم هذه الأسطورة بصيغة ما، ولا إبداع يذكر لكاتبه.
في الاتجاهين آنفي الذكر يبقى الكاتب محافظاً بدرجة واخرى على صلته بالأسطورة تلك، فهو لا يدعها تفلت من بين يديه، ففي الحالة الثانية تكون هي المسيطرة والمهيمنة على فكر وابداع الكاتب، وفي الحالة الاولى يختل التوازن، فإما أن تكون هذه العلاقة مثل الحالة الثانية حيث تسيطر الأسطورة على الكاتب، أو أن تكون الأسطورة كالعجينة اللينة يشكلها الكاتب كما يريد ويرغب. فمرة يبعدها عنه لنلتقي بملامحها الباهتة، ومرة أخرى نلتقي بها وقد تلبست بعض ما في العمل الإبداعي لذلك الكاتب.
السباتين في عمله الروائي "صخرة نيرموندا" كان من النوع الأول، و في الحالة الثانية. وهو إنه كان قد استثمر الأسطورة من ضمن النوع الذي أبعدها عنه والتي تحركت في عمله الإبداعي خدمة لهذا العمل الذي يقدمه في الرواية، فأصبحنا نراها – الأسطورة الأصل - باهتة كالخيال الذي يتراءى في الظلام.
اعتمد الكاتب الروائي بكر السباتين في روايته "صخرة نيرموندا" على أساطير ثلاثة، فمضمون الرواية قد اعتمد على هذه الأساطير، وهي:
-
أسطورة "نيرموندا" وهي أسطورة أميرة يافا الكنعانية.
-
أسطورة "سعد الخبايا" من أساطير عامة بلاد الشام.
وكل هذه الأساطير ما زالت طرية في ذائقة أبناء سوريا منذ أن وجدت مكاناً لها في ذائقة السوريين الشعبية.
هذه الأساطير بنيت عليها رواية "صخرة نيرموندا" في سبيل تقديم موضوع بطلها "سعد الخبايا"، وهي تتبعه من طفولته الى أن كبر.
في هذه الدراسة نريد أن نعرف كيف تعامل الروائي السباتين مع هذه الأساطير؟
*
هل تعامل معها ليقدمها كما هي في مضانها الأصلية للقراء، أي كأسطورة نقية واضحة المعالم؟
*
أم إنه تعامل معها من خلال جعلها كالظلال الباهتة التي تبدو خلف الموضوع الرئيس، فقدم موضوع عمله الإبداعي الى القراء استنادا إلى تلك الظلال الباهتة. وفي الوقت نفسه قدم موضوع عمله الإبداعي تجسيداً لها وهو يفوح برائحة تلك الأسطورة ؟
هذا اولاً، وثانياً لنتعرف على استخدام الواقع والمتخيل عند الكاتب من خلال هذا العمل الإبداعي، أي الرواية.
"
فسعد الخبايا" لم يكن هو سعد الأسطورة السورية التي تدور بين الناس، بل هو بطل العمل الروائي هذا، إذ خاض نضال البقاء في الحياة، في أن يعيش بعد تركه الدراسة ليعاون أمه، ناضل ضد الفقر، ثم الاحتلال الصهيوني.
فسعد الخبايا هو واحد من أربعة "سعودات" – حسب الأساطير - لها علاقة بالظواهر الطبيعية "عن فصل الشتاء" حيث هو الرابع والذي تبدأ الحيوانات التي كانت تقضي فترة السبات الشتوي بالظهور، مثل: الأفاعي والعقارب والحشرات المختلفة وغيرها من الحيوانات، كما تبدأ النباتات والأعشاب بالظهور لتعلن قدوم الربيع.
إذن سعد الرواية هو سعد الأسطورة إلا إنه بعيد عنها، ذلك لأن سعد الأسطورة يعود الى ظاهرة طبيعية، فيما سعد الرواية يعود الى إنسان من لحم ودم يظهر ليؤدي دوره النضالي في الحياة كما تظهر الحيوانات والاشجار مرة ثانية في الحياة لتعيش دورتها الحياتية "تحيا من جديد"، وسعد هذا يذكرنا بأسطورة "دموزي" السومرية، إلا إنه ما زال رأسه يموج بالأساطير التي بنيت منها الرواية: "كيف أمضي بهذا الرأس الذي ملأته الأساطير بالأوهام، فأشق الزحام"!
فهو من جانب قد ارتبط برباط سري مع والدته "ابن بار"، ومن جهة ثانية فقد ارتبط "بنيرموندا" – الصخرة التي تحيي ذكرى الأميرة في كل حين والتي أسرها الغزاة.. وتركوها مكبلة بالقيود على صخرة في شاطئ البحر فحملت اسمها - من خلال حب والده المتوفي لهذه الصخرة التي حيكت عنها حكايات أميرة يافا على حافة البحر. إنه مرتبط بالاثنتين، وبنفس الوقت تنجيه صخرة "نيرموندا" من الغرق في البحر.
أما عن أسطورة "بلقيس"، فإنها - هي التي أحبها سعد الخبايا، وتزوجت من رجلين من قبله - تقود الجماهير بنفسها في نهاية الرواية والمقاومة بوجه المحتل.
إن بلقيس التي وردت في "القرآن" قد تناصت وبلقيس الرواية. فبلقيس تقود شعبها أمام سليمان لتخلصهم من القتال معهم، وفي الرواية كذلك، إذ تقود أبناء بلدها أثناء المقاومة.
إن بلقيس الرواية هي: "لم تباغت قلبه قادمة من السماء. بل هي ابنة الأرض مثلهم.. بدودها وعشبها وسنابل القمح التي تكسو القلوب في الربيع.. هي التي جردت سماءه من غيوم صيفية بلا أمطار، ليعيش معها على الأرض حبا حقيقيا ولو كان من طرفٍ واحد.. ورغم ذلك فهل ينسى سعد "نيرموندا" بهذه السهولة! فألجمت عينا بلقيس الجواب".
***
في نهاية الرواية تلتحم الأساطير الثلاثة فيما بينها: "وتخيلت وهي تراقب البحر بلقيس هي تجوب أزقة المدينة باحثة عن سعد.. فترمي إليها زكية طوق النجاة.. تخيلت نفسها ترشدها إلى طريق سعد الخبايا ما دام يحبها أكثر: "ستجدينه متأبطا أميرة يافا على صخرتها يا بلقيس.. هنا حيث يتلاحمان".
وبالتحام الثلاثة في رواية واحدة "سعد الخبايا ونيرموندا وبلقيس " معناه قد تخلصت الرواية من هيمنة الأسطورة، فجاءت هذه الأساطير الثلاثة في تناص ابداعي في هذا النص الروائي. أي إنه طوّع الأساطير الثلاثة الى الرواية ولم يترك الأساطير تقود الرواية الى دروبها التي لعب بها مخيال واضعها الأول، إن كان مفرداً أو جمعاً.
إن التخلص من الأسطورة في النص السردي، أو أي نص أدبي آخر، يتطلب من الكاتب أن يكون ملماً بهذه الأسطورة، وله القدرة على أن يطوعها للعمل الأدبي الذي يكتبه، وكان السباتين روائياً مقتدراً في سحب أساطيره الى النص الروائي.
هكذا وظف السباتين في روايته "صخرة نيرموندا" الأساطير الثلاثة لتساهم في بناء عمله الإبداعي/ الروائي بعد أن أحيا تلك الأساطير في مخياله وقام بتفكيكها وبنائها من جديد وهي تتوافق وروايته، فكان أن سيطرت الرواية على هذه الأساطير، فأصبحت عند ذاك هي الحاضنة لها، فيما الرواية قد تخلصت من هيمنتها الكلية والجزئية منها، فكانت الأساطير تلك الأداة وليست الغاية في هذه الرواية.

عرض مقالات: