1

                                                                                                                محمد الشيخ فخري

 كانت الاحاديث تتناقل بين ابناء العائلة الكبيرة و الاقارب بين بغداد و الفرات سواء كانت بصيغة روايات او محادثات او ذكريات عجائز او ماعشناه لاحقاً . .

قال غازي ذات يوم :

ـ لماذا لا نلتقي في بيوتنا لنلعب البوكر و نشرب ؟ يمكن ان نلتقي كل مرّة في بيت واحد من عندنا . . ارخص واكثر امناً و بدون التعرّض لمضايقات الحراس الليليين و دوريات الشرطة، و مضايقات شباب المحلاّت المتشددين العاملين من انفسهم سلطة في الطرقات ليلاً . . يمكن ان نلتقي في بيوتنا وهي قريبة من بعضها و تقع في محلة واحدة ، وبيتنا مثلاً كبير وفيه طارمة جميلة تطلّ على حديقة واسعة .

حيث كان الشباب المتحمسون للقضية العربية بعد اعلان الإنتفاضات العربية في سوريا و فلسطين وسط تزايد الأخبار عن نشاط العصابات اليهودية في فلسطين . . كانوا يتجمعون سواء في مفارق الطرق او عند واجهات المقاهي، و يقومون باعمال حراسات ليلية خوفا على محلاتهم من اعمال التخريب التي كانت تنتشر اخبارها   . . 

اجابه الخال محمد :

ـ للأسف لااستطيع، لأن بيت اهلي بيت ديني و الحاجة الوالدة لاتقبل و ستقيم الدنيا ولاتقعدها !! بل وستقف العائلة الكبيرة كلّها معها !

ـ تستطيع الحديث معها واقناعها كما فعلت انا مع والدتي . .

قاطعه حمودي الباشا قائلاً :

ـ عزيزي غازي . . محمد لا يستطيع ذلك فكل اهل البيت هناك نساء محجبات و لارجل في البيت سواه ، والبيت بيت عالِمْ ديني كما تعرف . . الشيخ فخري المدرّس الله يرحمه ، ويقيمون فيه الذكر و المناقب .

غازي :

ـ متفقين ولكن . . احنا نسائنا في البيت ايضاً محجبات و لو يعني لا يلبسن بوشية ولا نقاب وجه ولكن يلبسن العباءة . .

ثم استدرك قائلاً :   

ـ ولكني لست الولد الوحيد في البيت، اضافة الى ان القضية الأساسية وهي وجود والدي ربّ العائلة في البيت ، وهو ليس رجل دين . .

حيث كان ابو غازي يعمل في البيع و الشراء ويحقق ارباحاً ليست قليلة من اعمال التموين وبالأساس من اعمال تموين القاعدة البريطانية في معسكر الرشيد (الهنيدي المتداول آنذاك) . .

فقال حمودي الباشا لحسم النقاش :

ـ عال ، يعني نروح الى بيت غازي ، لأن والدي لو تنطبق السماء على الأرض لايوافق ان نشرب و نلعب ورق في البيت ، رغم اني متأكد انه يقوم بكل الممنوعات مع ضيوفه سواء كانوا رجالاً لوحدهم او مع زوجاتهم ، واحياناً بوجود فنانات (. . ) يحيين الليالي بالطرب و الغناء.

صار الشباب الثلاثة يلتقون بشكل متواصل في بيت غازي بتشجيع من والده السيد نوري النشيط في السوق و صاحب العيال والشابات اللواتي كنّ ينتظرن الزواج ، حيث كان يشجّع ابنه على تقوية صداقته مع كلا الصديقين لكونهما من عوائل بغدادية معروفة، ولأمكانية انشاء مصلحة و عمل معهما كما فكّر، حتى صار ابو غازي يشاركهم مجلسهم و لعبهم و شرابهم . . وعلى انغام موسيقى الأسطوانات الدائرة في الغرامافون

قال ابو غازي يوماً :

ـ اننا عائلة متفتحة ويعود ذلك لأننا اصلاً من داغستان، وبيتنا ملّكنا ايّاه الباشا التركي جديّ . . وسكنا فيه بعد ان تزوجت ابنة عميّ ام غازي .

.  .  .

.  .  .

في وقت كانت فيه اجواء البلد تزداد احتقاناً و يجري تداول مفاهيم عن : بسمارك العرب، العراق بروسيا العرب . . الملك غازي هو المخلّص، و يجري تداول انواع البيانات والنشرات والصحف المحرّضة على ذلك، بل و يجري تداول انواع المنشورات السرية التي كان يشاع بانها لعملاء روس و لعملاء اتراك و ايرانيين . .

كان محمد فتى عابثاً ولم يكن تلميذاً مجتهداً وانما كسولاً كثرت شكاوي معلميه منه لوالده الشيخ فخري و كانوا يضطرون الى دفعه و انجاحه في الدراسة الأبتدائية اكراماً لوالده الشيخ، وبذلوا جهوداً كبيرة كي ينجح في الأمتحان الحكومي للدراسة الإبتدائية حتى نجح فعلاً في المحاولة الثانية .

اثر وفاة والده الحاج فخري الذي اقامت كلية الشريعة الإسلامية الملاصقة لمرقد الإمام الأعظم ، اقامت حفلاً تأبينياً كبيراً، اثر تأثير وفاته التي تأثر بها اهالي الأعظمية كثيراً واغلقوا ابواب محلاتهم التجارية في السوق القديم اكراماً له و للمشاركة في مراسيم العزاء والتأبين . .

ورث محمد قطعة ارض ثمينة اثر وفاة والده، حيث كان والده قد خطط ضمن ماخطط لأن تكون لولده وكتبها باسمه في حياته لتكون له ضماناً كي يبني عليها بيتاً يعيش فيه بعد ان يتزوج ، الاّ ان محمد اسرع في بيعها ولم يستثمر ثمنها في صنعة او مهنة ما، وانما صرف ما حصل عليه في مصاحبة شبان عابثين انشغلوا بالسكر في الحانات و القمار، والسهر في الملاهي الليلية في جنوب العاصمة .

و مرّت السنين، اشتغل فيها محمد ككاتب مرّة في علوة الفواكه والخضر العائدة للحاج عبد الكريم، ومرّة كماسك دفاتر ومساعد في مخزن لوازم بيتية عائد لأسطه رشيد وغيرها من الأعمال المؤقتة و الموسمية الى ان حصل على شغلة كاتب بوساطة خاله . . مرة في دائرة المستوردة و مرة في مطابع الحكومة . .  

و قد استمرّ محمد في الشرب و لعب الورق ، اضافة الى ارتياد الملاهي الليلية قرب الباب الشرقي كلما سنحت له فرصة ، وقد صاحب وتصادق من خلال ذلك مع شبان جدد . . ومن عوائل متباينة غنية و فقيرة و من اديان و قوميات متعددة من ابناء البلد .  .

 في ساعة متأخرة من احدى الليالي و بينما كان محمد عائداً من بيت غازي في محلة " السفينة " الى بيت الحاجة والدته في " محلة الشيوخ " . . جذبه ضوء ينبعث من غرفة والده الشيخ والتي اقفلت على اثاثها و محتوياتها بعد وفاته ، فصعد الى الساحة العلوية للبيت حيث تقع الغرفة ، وهو يتوقع ان يقابل اخاه الأكبر " زكي " الذي كان الوحيد الذي ائتمنته امه على غرفة الشيخ ، فكان الوحيد الذي يمتلك مفتاح بابها و يستطيع الدخول اليها . .      

و بعد ان فتح الباب ، جفل من رؤية اخيه الكبير حيث شاهده ينظّف مسدساً و يحشوه بالرصاص، وكانت امامه رزمة من منشورات . .

ـ آآآآ . .

ـ ها محمد، خفت من المسدس ؟؟

ـ لا ، بس . . بصراحة آني خفت . . يعني لايوجد واحد مايخاف من السلاح !

ضحك زكي و قال :

ـ لاتخاف !!

ـ زكي . . لماذا لديك سلاح ؟ هل هو مجاز ؟!

ـ عزيزي محمد . . صعب الحديث و النقاش مع سكران . . وفي آخر الليل .

ـ انا صحيح شارب ولكني لست سكراناً . . يعني انت بعدك تفكّر بقضية الدولة العربية العظمى، يعني الملك غازي الله يرحمه مات، والعقداء الأبطال اعدموهم . . يعني لاتزعل . . ولكنه واقع ام كيف ؟

ـ اخي محمد . . الملك غازي قتلوه ، يعني كان اغتيال سياسي و الموضوع طويل و لاينتهي، وهو باختصار من حق العرب ان يقيموا دولتهم كباقي شعوب الأرض، وهذه الدولة لاتُعطى كهدية وانما تنتزع انتزاع في الصراع مع الأستعمار . .

ـ يعني تعتقد لو هتلر انتصر ، اقول لو . . يعني كان حقق او ساعد على الأقل في تكوين دولة العرب ؟

ـ والله اسأل الذين يحبّون هتلر . . انا اكره النازية و هتلر و كل انواع الدكتاتوريات و القهر و الظلم السياسي و القومي و الديني، و اشوف كل القوى العظمى في العالم تشتغل لمصالحها هي وعلى القادة الوطنيين ان يستفيدوا و يوظفوا صراعهم بينهم . . لأجل تحقيق حقوق بلدانهم .

ـ كيف قبلتكم المانيا النازية حينها . . و وافقت على تدريسكم ان كنتم هكذا تفكّرون ؟

ـ شوف عزيزي . . انا ذهبت بدورة حكومية الى المانيا وفق اتفاق بين حكومة الكيلاني والحكومة الألمانية، كالإتفاقات المعقودة بين الحكومة العراقية و البريطانية . . بعد ان طرحت حكومة الكيلاني و سارت على سياسة الحياد و عدم التدخل في الحرب بين بريطانيا و المانيا، في محاولة منها للأستقلال والخلاص من الأستعمار البريطاني . . 

عندما كنا في لايبزك الالمانية، كنا كطلبة عراقيين مبعوثين نرى ان علاقة زميل دورتنا خير الله طلفاح بقائد الحرس الاسود النازي هملر، علاقة غير طبيعية . . حيث كان يدعوه لزيارته الشخصية عدة مرات في انصاف الليالي . . 

ـ يعني بعدك مشغول بالسياسة ، تصورت انك تركتها بعد ان حلّت منظمات الفتوة والشباب و بعد هروب حكومة الكيلاني وهزيمة المانيا في الحرب .

ـ هناك قضية وطنية و عربية ، و الموضوع لايتعلق بالمانيا و لا بالنازية كما تتصوّر و يتصوّر خالك  سعدون . . هناك نضال ضد الأستعمار ومن اجل الحرية و الأستقلال، وقد ابتدأ منذ النضال من اجل التحرر من النير العثماني .

ـ وتعتقد احنا نقدر نواجههم ؟ ! خالي يقول . .

ـ نقدر نواجههم اذا تركت انت و امثالك الشرب و الملاهي و ترك خالك سعدون النسوان و سوالفه المكسّرة و اكبرها كانت حين نزل بطائرة تدريب على الارض الصبخة في الغدير شرق بغداد، ليزور حبيبته الارمنية لأنه وعدها، و تكسّرت عجلات الطائرة و ارضيتها و طُرد من القوة الجوية، و كان يفخر بأن عيد الجيش في 6 كانون الثاني كان هدية جعفر العسكري لصديقته الارمنية وقتذاك !!

وقاطعهما صوت والدتهما وهي تصيح في ساحة الدار :

ـ قد قامت الصلاة .  .  قد قامت الصلاة !! ولدي متى تنامون ، وذّن الفجر !!

.  .  .  .

.  .  .  .

 كان زكي جواد الأخ الأكبر غير الشقيق لمحمد ، و هو ابن الضابط النشيط في جمعيات الضباط العراقيين من الذين كافحوا من اجل الأستقلال عن العثمانيين ، و الذي قضى ببطولة في حرب البلقان بعد ان ابيدت وحدته العائدة للجيش العثماني في احدى المعارك الضارية هناك . 

و استمر زكي على نهج ابيه في الدعوة الى الدولة العربية الواحدة، بتشجيع من عمه الذي اهتم به و ساعد في اعداده ليكون ضابطاً كفوءاً على خطا ابيه .  .  و قد اكمل المدرسة الريفية لإعداد المعلمين في وقت لم يكن مهتماً كثيراً في اكمال دراسته، بقدر اهتمامه بالرياضة وبالذات الملاكمة التي زاولها كهاوي ثم عمل لها كمحترف ، بعد ان حقق نجاحات كانت تنبئ له بمستقبل لامع فيها.

فتطوّع في الجيش في صنف القتالية ـ ضباط الصف، كمهنة توفر له سبل العيش وتسهّل طريقه اكثر في الملاكمة، التي حقق فيها بطولات متصاعدة وصلت الى حيازته على بطولة آسيا في الملاكمة، وصار بذلك متفرّغاً اكثر في شؤون الرياضة العسكرية .

ولمّا كان من المتحمسين للقضية العربية، وجد نفسه منغمراً بنشاط في جمعيات العسكريين المناضلين من اجل تلك الأهداف، وصاراً قريباً من عقداء المربع الذهبي، بل و معتمداً عليه في الشؤون الميدانية الى حدوث احداث مايس 1941 التي ساهم فيها بحماس وترقىّ في المواقع العسكرية حتى صار آمر سرية راوة للمتطوعين من منظمات " الفتوة "، التي سميّت حينها بـ " سرية الموت" ، كما كان يروي . .

وبعد فشل انتفاضة مايس، القي القبض عليه و أُخرج من الجيش العراقي ، واضطر الى مزاولة عديد من الأشغال التي ساعدت على مواصلته للملاكمة، و تزوّج من ارملة كانت تعمل خيّاطة ، فتحسّنت حياته المالية و الاجتماعية . . فيما واصل العمل من اجل تحقيق " حلم العرب " على حد تعبيره، على طريق الخلاص من الهيمنة الإستعمارية، خاصة وان العواطف العربية تصاعدت اثر مذابح العصابات الصهيونية بحق الفلسطينيين و كان الناس يتداولون بان الجيش العراقي لولا خيانة نوري السعيد، كان مستعدا و قادراً على سحق العصابات الصهيونية. . لولا اوامر السعيد بالانسحاب.

كانت والدته الحاجة امينة تعتمد عليه و تثق به ، ورأت فيه الرجل الذي يمكن ان يساعدها و يشد ازرها عند الملمات ، بعد وفاة زوجها الشيخ . وقد امّنته على غرفة زوجها الشيخ الراحل التي احتوت اشياءً ثمينة ، اضافة الى الكتب و المخطوطات النادرة الثمينة .  . التي اوصى بتوزيعها على مريديه و دراويشه و عوائلهم بعد وفاته، وفق الوصية التي تركها و التي حملت اسمائهم ، والتي كان توزيعها يحتاج جهداً استثنائياً لأنتشار المريدين و الطلاب الدينيين و الدراويش في مدن و اماكن متنوعة من البلاد، ويجيد قسم منهم العربية كلغة القرآن و التفسير .

وقد اكتفت الحاجة امينة من غرفة زوجها الراحل التي لايدخلها احد دون خلع حذائه عند بابها، كما كانت تفعل معنا في الطفولة . . اكتفت منها بلوحة جلدية فقط خُطّت عليها " آية الكرسي " التي علّقتها على حائط غرفة الجلوس، اللوحة التي كانا قد اشتروها معاً، هي و زوجها الشيخ الراحل في رحلة حجّهما معاً الى البيت الحرام الذي حققا فيه نذرهما بالتوبة .  .  بالحج مشياً على الأقدام رفقة قوافل الحجاج الراكبين على الجمال . . 

وقد اضطر زكي الى تغيير قفل الباب بقفل محكم جديد ، بعد انكشاف غياب بعض الحاجات منها، واعتقد اهل البيت ان ابن الشيخ من زوجته الأولى، قد سرقها حين جاء من مدينته لحضور مراسم الدفن و استغل انشغال الجميع بها، و بالواجبات الملقاة عليهم فيها . وكان قد اختفى فجأة كما ظهر فجأة .

فيما تساءل الجميع عن ثعباني الشيخ السوداوين الكبيرين ، اللذين عُرفا بـ " الثعبانين الحارسين " اللذين عاشا في جحرين واضحين ، كان الأول عند يمين ارضية باب غرفة الشيخ ، و الجحر الثاني تحت الدرج المؤدي الى السطح الواطئ والطابق الثاني لذلك البيت الشرقي الكبير العالي .

لقد اثار ذلك الحدث الكثير من التقديرات :

ـ لايمكن تصديق ذلك ، فالشيخ و اغراضه يحميها العديد من الملائكة .

ـ هناك دراويش لايراهم احد يحمون الكنوز الإلهية، و يقطعون يد من تمتد يداه على ما حرّم الله !!

ـ لابدّ ان هناك اشتباه ما ، فالأمر غير معقول . لأن مثل ما قال الأخ من يجرؤ على الدخول الى غرفة الشيخ في غيابه ؟

ـ يقولون ان جحري الثعبانين مهجوران ، يمكن ماتا .

ـ كيف يموتان ؟ انهما ملاكَيْ الشيخ الحارسان !!

ـ لابد انهما ذهبا مع روح الشيخ الطاهرة الى البارئ عزّ وجلّ ، وليشهدا عليه هناك بالحق ، فقد عاشا معه ويقال انه كثيراً ما استشارهما و تشاور معهما فيما اتّخذ من قرارات !

ـ الله واكبر !!

ـ اللهم صليّ على محمد و على آله وصحبه اجمعين !

ـ آمين !!!

ـ .  .  .

ـ لايمكن لذلك الأبن الغريب ان يسرق شيئاً من غرفة الشيخ والاّ و قبض عليه الثعبانان كما قبضا على مجيد الحرامي .  .  . ؟؟؟  (يتبع)

 27 /9 / 2021 ، مهند البراك

 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

                                                                                                                ـ2ـ

                                                                                               درويش مجيد

                                                                          

و في ذلك الجمع، فجأة صاح احدهم :

ـ هاهو مجيد الحرامي !!

ـ ش شـ  شـ  ش تريد تورطنا ؟ . . تقصد درويش مجيد !!

ـ ويلك !! هذا اقرب دراويش الشيخ و احبّهم الى قلبه . . 

التفت الجمع المتحمس الى رجل طويل مفتول العضل ظاهر القوة، معصّب رأسه بعصّابة سوداء

فيما كان يلبس ثوبا طويلاً اسوداً، و يضع كوفية سوداء غطّت كتفيه . كان يتفحّص الجميع بنظرات فاحصة من عينين واسعتين محمرّتين لوجه كثيف الشعر . . كانت هيئته تلك وبالخنجر الفضيّ اللامع الظاهر و المثبّت وسطه ، تهدد بالويل و الثبور لمن لا ينضبط و لا يصمت ، و لمن لايظهر حزنه و احترامه للشيخ المتوفيّ الذي اوصى بان يدفن في الأرض المجاورة لمرقد الإمام ابو حنيفة النعمان و ان يهال عليه التراب فقط و ان لايظهر من قبره اكثر من علو لا يزيد عن خمسة اصابع يد ، بلا بناء و لا حجر . . كي يستطيع سماع الآذان !

.  .  .

عرفت محلة الشيوخ القديمة " مجيد الحرامي " كشقي لايشقّ له غبار، لم يعرف له اصلٌ ولايعرف من اين جاء ، لكنه كان أملاً للعديد من الفقراء و المعدمين في محنهم و آلامهم، كان يشرب الخمر و يضاجع النساء اللواتي اعجبهن ، الاّ انه لم يكن مستهتراً، ولم يعتدِ على ضعيف او فقير او على امرأة في محنة . كان ينظر بريبة و عدم احترام و احتقار لمن يتجبّر بماله و لمن يستغل الفقراء و يسوقهم و يسومهم العذاب باسم الخرافة و الدين، والدين منها براء.

سطا على بيوت اغنياء جمعوا اموالاً من الخداع، وعلى بيوت من سطا على املاك و حقوق الضعيف و اليتيم بالقوة . . وساعد بها اليتامى ومن ليس له معين ، و ساعد من احتاج و من تهددت بالأنحدار الى الشارع لإطعام اهلها او اولادها .  .  ممن سألوه العون و النجدة، علناً او سرّاً.  

كانت الناس تعرف و تعرف الكثير عنه ، ولكن لم يجرؤ احداً على الشهادة ضده ، لنبله و شجاعته و كرمه من جهة ، ولإنتقامه الذي لم يعرف الرحمة تجاه الخائن و الحقير ، خاصة وانه لم يكن طمّاعاً او شرها او انانياً.

لم يُعرف تحديداً لماذا تسلل " مجيد الحرامي " الى حوش دار الشيخ فخري ، في ليلة شتائية قارسة البرد. ففي تلك الليلة استفاق الجيران على صوت صراخ عالٍ منبعث من دار الشيخ يطالب بالنجدة و بالرحمة، كان صراخاً متهالكاً من رجل على و شك الموت.

قالت الحاجة امينة انها استيقظت مذعورة من النوم من شدة الصراخ وكان ابنائها حولها ، ورأت على ضوء الفانوس ان افعتي الشيخ امسكتا بتلابيب رجل تثبّت على الأرض و كأنه تسمّر عليها . و انها رأت الشيخ يخرج من غرفته المضاءة و يسير بهدوء و هو يتلو آيات من الذكر الحكيم و يقترب من الأفعتين، اللتين تحرّكتا نحو الشيخ تاركتين الرجل امامه و زحفت كل منهما الى جحرها، فيما كان الشيخ ينادي على الرجل، كما قالت :

ـ ابني تُب الى الله ، انه غفور رحيم .

ـ  .  .  .

ـ ابني لقد عصيتَ امر الله القادر القدير فنهبتَ و شربت الخمرَ و مارست الفحشاء  !!

ـ لكني لم اظلمْ احدأ ، بل دافعتُ عن الفقير و اليتيم و المحروم !

ـ نعم . . ولكنك انتهكتَ حرمة بيت ولي شفيع من خدم الله في مقدَمِ شرّ!

ولم يجبْ مجيد بل اخذ ينتحب و يبكي بكاءاً مراّ كان يفتت قلب السامع و هويزحف يريد تقبيل قدم الشيخ اعتذاراً . .

تراجع الشيخ و هو يصيح بانفعال :

ـ استغر الله . . لاتحقّر نفسك . . لقد تاب عليك الله و الاّ لما نفذت من عقاب الله، ابني تركك الله تعالى صحيح معافى . . تُبْ الى الله و ليس اليّ و اطلب اليّ المغفرة معك من عنده ! كلّنا من آدم و آدم من تراب ، صدق الله العظيم !

صاح مجيد بصوت واثق :

ـ ربيّ اتوب اليك !! ربيّ اتوب اليك !!

وانحنى الشيخ عليه بلحيته المحنّاة و بعمامته واضعاً كفيّه على كفيّ مجيد الذي كان يرتجف ، وطلب منه النهوض فنهض، و وضع الشيخ يده على كتف مجيد و سارا معاً الى غرفة الشيخ . . ومنذ ذلك الحين صار مجيد يزوره كل يوم تقريباً و كان الشيخ يبتهج لقدومه . .   

حتى صار مجيد اكثر جدية، و صار يقرأ كثيراً ليس القرآن و التفسير و حسب و انما الأدب و كتب نصرة الفقير . . ساعده الشيخ ليستقر على مهنة بعد ان اوصى به بناء على رغبته احد الخبازين المهرة فعمل خبّازاً،  ثم ساعده ليتزوج ... و بقي على سعيه في الدفاع عن المظلوم . . وصار اقرب حواريي الشيخ و منذ ذاك سماه الناس " درويش مجيد " . .

.  .  .

.  .  .

في مجلس النساء لدى الحاجة امينة في بيت الشيخ ذي البوابة الخشبية العريضة المصنوعة من الخشب الهندي السميك و المرصّعة بمسامير معدنية كبيرة ، وبعد ان احكمت الحاجة امينة اغلاقه وقفله  بمفتاح كبير طوله بطول نصف قدم كانت تعلّقه بجيدها ، احكاماً للعزلة و حماية لخلوة النساء، و كنّا نحن الاطفال نجلس خلف النساء او عند الاحذية مستعدين لتلبية اي طلب .  .

و بعد اكمال الذّكْر والمولود الديني النسوي بمناسبة المولد النبوي بعد مرور عام على وفاة الشيخ،

تذكّرت الحاجة امينة انها نسيت ان تضع الحليب للثعبانين كما كان يفعل الشيخ كلّ صباح ، واخذت ترتجف و انقطعت عما احاطها من الكلام ، و النساء حولها يتدافعن ويتصايحن :

ـ حكَمَ عليها الحالْ !

ـ دثّرنها باغطية دافئة !

ـ  .  .  .

وفجأة . . دفعت الأغطية ووقفت بقامتها وسط مفاجأة الجميع و ذهبت مهرولة الى سُلّم المنزل ، و حاول البعض ثنيها و استفسر البعض منهن بخوف عمّا تريد و الى اين تريد الذهاب ؟؟

قطعت الصمت كبراهما في علوم الدين التي كُنّ يدعونها بـ " الخليفة " و تصدّرت المولد و قالت :

ـ دعنها تذهب الى حيث تريد بسلام . . البيت بيتها وهو بيت مبارك . . انها تنفّذ امراً تلقته من الأعالي . . مدد ياشيخ فخري . . مدد !!

ورددت الأخريات على نقر الدفوف :

ـ مدد

ـ مدد !!

ـ غوث ياسيدنا الشيخ غوث !!

ـ حــــــــي ! الله حي ! الله حي !

.  .  .

ذهبت الحاجة امينة الى السطح العلوي من خلال الطابق الثاني الخشبي ذي الشناشيل .... السطح الذي كان يهتز من وقع اقدام الأطفال الصغيرة ويهتز مع الريح !

قالت الخليفة :

ـ انها ذاهبة لتناجي الملك الصالح ! لاتقلقن ! انها زوجة الشيخ والله اعلم !!

ـ اللهم صلي على محمد !!

بعد فترة ليست طويلة . . عادت الحاجة من السطح مهللة الوجه وهي تصيح من بعد :

ـ الحمد لله . . الشيخ بخير و غفر لي نسياني !!

ـ الف الف الحمد الله و الشكر !!

وبعد ان استمر نقر الدفوف و انشاد التراويح وبشكل متقطّع . .

هام قلبي عندما ذُكِرَ النبي . . النبيُّ

النبي المختار . . محمد

محمدٌ احمدٌ . . طه

طه . . يا كامل الأنوار

وبعد ان تناولن الخبز و الريحان و الخضرة العشبية وبدأن بشرب الشاي وهن يتحدّثن بامور الناس و المحلة و قضايا الزواج والطلاق و الحمل و العقم و الاخلاق و السفاهه و الفضائح و مشاكل العوائل و يحاولن معرفة رأي الخليفة فيها لإسداء النصح للناس، كما عبّرن . .

سألت احداهن من الشابات الحاجة امينة بعد البسملة و العياذ بالله و طلب المغفرة ان كانت الأسئلة تُخلّ بالشرع او الأدب او بامور لايجوز الحديث بها :

ـ حاجة امينة استغفر الله العظيم . . هل لكِ ان تحدثينا عن الثعبانين و كيف ظهرا ؟

شحب وجه الحاجة امينة و هي تستغفر الله و تكرر الأستغفار، وسط انصاتنا و تسمّعنا و فهمنا على قدر عقولنا الطفولية، و قالت :

ـ في البداية لازم تعرفي ان الشيخ فخري، علّمته امه التقيّة و هي مؤسسة التكية النقشية في وادي العمادية، كانت زوجة الضابط العثماني الكبير الذي قتل في حرب القرم على يد المسقوف الصليبيين . . و تولّت امّه بعد مقتل ابيه رعاية و تربية ابنها الوحيد منه . . كانت الأم ابنة شيخ متصوف من مريدي الشيخ الشطيّ الكبير من ديار بكر، التي هربوا منها اثر المذابح التي قام بها العثمانيون بحق الارمن و الاديان الأخرى و بحق الكرد و كلّ معارضيها من المتصوّفة . .

و كانت تعرف عديداً من اللغات، من الكردية و التركية و الفارسية و الآشورية و الى الفرنسية وكانت قد ورثت المشيخة و الطريقة من ابيها و علّمتها الى ابنها في وادي العمادية الى ان اشتد عوده، فنقلت المشيخة الى الموصل و اسست هناك تكيتها، و اورثتها الى ابنها الوحيد الذي اسس هو و اقرانه كلية الشريعة الأسلامية العائدة الى مقام الإمام ابو حنيفة النعمان في الاعظمية . .

و بعد ان اكمل الشيخ رحمة الله عليه بناء هذا البيت ، قال ، ان هناك نَفَسٌ طاهرٌ في هذا البيت، وانه رحمه الله لمس علاماته بنفسه ورآها بعينه ، و ( اننا سنتوفق فيه فكوني سعيدة و احملي دوماً بشائر الفرح) ، ولم يزدْ ، ولم اسأله كيف و ماذا لمس .

بعد فترة و عند غروب شمس ذات يوم  ... فوجئت بافعى سوداء ثخينة يتماوج بريق لونها مع تماوج حركتها و جسمها، كانت تمر بهدوء امامي و تليها ثانية، فجفلت و جمدت في مكاني لأني و كما اعرف ان الأفعى السوداء مباركة و تحسب على ملاك السادة الأشراف . . و ما ان رأيت الشيخ حتى صرخت اطلب منه انجادي ...

فقال :

ـ لاتقلقي و دعيهما يسرحان كما يريدان انهما بركة و ستر !! يحميان الطارمة المسقوفة و غرفة الكتب المقدسة و التفاسير و الاجتهاد، الصغيرة . و اضافت : عادة ما يستقران عند الحديقة الصغيرة وسط الحوش حيث شجرة الرمان ليشربا الماء و الحليب، ثم يذهبان لسماع الشيخ و هو يتلو بآيات الذكر الحكيم . .  

. . . .

. . . .

كانت جدّتي امينة تصطحبني معها لزيارة قبر جديّ في مقبرة الخيزران، كلّما رأت ما رأت في حلم ما زاد شوقها اليه، او جاءتها رؤيا او شافت العزيز بالحلم، كما كانت تقول و كانت تناقشه و توضّح له عند قبره، وسط دهشتي لأني لم اكن ارى احداً . . كنت احمل معها الجرك (نوع من المعجنات) و الخبز و الريحان و الكُراّث، ماريّن في ازقة و سوق محلة الشيوخ القديمة . . لتوزيعها على فقراء الجامع القريب من جسر الأئمة الذي شُيّد بعد سنين هناك، اضافة للشموع لإيقادها ان هبط الظلام و هي في تسبيحها و تلاواتها المتنوعة لسور من القرآن. كانت تلك الزيارات تشيع في جدتي حبها لنا و تشيع فيها الشجاعة و العزم و التحدي التي شهدناها بعد سنين و عقود.

في تلك الاوقات كان الناس يتحدثون في مجالسهم و في البيوت عن الذكريات المرّة لحوادث العنف في زمن الملك غازي و انقلاب بكر صدقي الذي وصفوه بكونه بداية للصراعات الدموية بين العراقيين لتولي الحكم و لإستخدام العنف بحق قومياته و اديانه، من مذبحة الآشوريين في سميّل و الى الاعمال العسكرية القاسية و انواع القصف بحق الكرد و عرب الفرات . .

و يتحدثون عن مظاهرات حاشدة كانت تندد بالحكومة و كانت الاعظمية احدى ساحاتها الرئيسية . . و عن كيف جرى توزيع منشورات بخط اليد و على الكاربون تدعو الناس لإسقاط الحكومة، و قال البعض انهم شاهدوا درويش مجيد فيها و اسموه البدوي الولي، و كان من انشط المتظاهرين و انه كان ملثماً بالكوفية و وزّع منشورات مطبوعة !! يقولون انها من عمل الروس المسقوف لأنها تدعو الى اخوّة المسلمين و المسيحيين و الكفّار و هيجي دعوات لابد انها قادمة من البلشفيك او البلاشفة او لاتُعرف تسميتهم جيداً . . و تدعو الى مساعدة العوائل الهاربة من مذابح بكر صدقي التي التجأت الى بغداد و الى الاعظمية في كمب الصليخ . .

ـ لكن اخوّة و مساواة البشر بقومياتهم و اديانهم كان يدعو لها الشيخ فخري نفسه!

ـ نعم و لكن لم يقل اخوّة مع الكفار !!

. . . .

. . . .

 بعد وفاة ابيه الشيخ اخذ محمد ينام خارج البيت، قالوا انه مستأجر في بانسيون او لدى اصدقاء، و قد صار و كأنه واحداً من عائلة غازي لكثرة تردده و وجوده و مبيته هناك وقد اجتذبه جمال فتياتها الداغستانيات البيضاوات والممشوقات القوام، ذوات العيون الواسعة الملوّنة و الشعر الكستنائي و الأشقر، بملابسهن الخفيفة و المهفهفة . .

و كان لصديقه غازي تطلعات قيل انها اوروبية، من اهتمامه بالكلاب التي صارت و كأنها من اهل البيت و خاصة الوولف دوك و البولدوك و كان يصرف على طعامها الخاص و يشتري علبه من الكرادة الشرقية، و يشرب مشروبات غالية و خاصة الويسكي، قيل ان صديقته العانس الثرية كانت تصرف عليه، بعد ان تعرّف عليها في مسبح الـ ( واي .ام .سي .اي) جمعية الشبان المسيحيين في السعدون، و قيل انه كان يرقص مع صديقاته اللواتي تعرّف عليهن في المسبح، على انغام الموسيقى الغربية الراقصة، رقصات السامبا و الرومبا . . التي بدأ محمد يتعلمها معه و مع صديقاته . .

ليأتي حمودي الباشا في العادة بسيارته المكشوفة السقف، بعد لعبه على ملعب سباق الخيل ..

حيث كان حمودي ابن عبود باشا الذي ذاع صيته كاحد اوائل صناعيي البلاد و صاحب اكثرمن معمل لصناعة السيكاير في بغداد . . الذي تعرّف عليه محمد من مجالس السكر و القمار وسباق الخيل، وتعرّفا من خلال ذلك على غازي، ابن العائلة التي قيل انها من اصول تركية، التي كان ربّها يعمل كموظف تموين لمصالح كانت تجهّز القاعدة البريطانية في الهنيدي ( صارت معسكر الرشيد لاحقاً).

في وقت كان فيه محمد شاباً وسيما و انيقاً، و كان يستنزف الكثير من مال العائلة و باع البيت الذي ورثه من ابيه، و عمل مع حمودي الباشا في افتتاح فرن الصمون الكهربائي الذي كان من اوائل افران الصمون الكهربائية في البلاد، و لم يُعرف من اين حصل على المال . .

صار محمد يشتاق شوقاً مضنياً لرؤية اخت غازي الصغرى مريم . . التي كانت تفتح له الباب كلما جاء، وكانت والدتها تشجّعها على الصداقة معه، خاصة بعد ان عرفت ان اخت محمد هي سعاد التي كانت زميلة ابنتها الكبرى نزهت في الدراسة، التي كانت طالبة مجتهدة و متّزنة و من عائلة معروفة . . و كانت تفتح مواضيعاً مخلّة في جلساتها مع محمد و مريم لتعميق التقارب بينهما . . و قد سألت محمد ذات مرة عن الحفّافة لميعة اليهودية و كيف تستطيع مقابلتها عن طريق سعاد، وكانت ام غازي كما قالت، تريد الوصول الى حفّافة تعرف عوائل المحلة و اهلها و دواخلهم، و تستطيع كتمان سرّها ان طلبت منها ان تحفّ اماكن حساسة من جسمها، كي تستمتع بالحياة اكثر، كما كانت تقول . .    

الامر الذي اثار اكثر من تساؤل بين الشابين محمد و مريم، عن ماهية تلك الاماكن الحساسة و لماذا ؟؟ و تفاجئا باجوبة الام المباشرة و خاصة ابنتها مريم عمّا تعنيه بحفّ الاماكن الحساسة و لماذا، بلا احتشام و لا حدود . . و كانت تكثر من تلك الاحاديث المثيرة معهما، حتى حدث يوما مالم يكن بالحسبان . . حيث فتحت الأم باب غرفة الضيوف بعد وقت من خروج الضيوف ووجدت محمد يعانق ابنتها ملتصقاً بها و هي باكتافها و صدرها البض شبه العاريين، بعد ان تعمّد التاخر . .

صاحت مريم . . و شهقت الأم قائلة :

ـ حلّكم الوحيد هو ان تتزوّجا فوراً !!

قيل ان ذلك قد تم بتخطيط و تنفيذ من والديّ غازي للحصول على الجنسية العراقية، لأن عائلة غازي كانت مسجلة على اللاجئين من الداغستان في القوقاز اثر هجوم المتطرفين الارثودوكس عليهم . . و تزوجا على نفقة والد غازي و بدون معرفة الحاجة امينة و العائلة، و فرحت عائلة غازي لأنهم تسجلوا على الجنسية العراقية، بعد ايام من الزواج . .

و بعد مقاطعة عائلته له، سكن محمد و مريم في بيت صغير و لكن متين قيل انه كان لتاجر يهودي أُجبر على ترك البلاد، و قد دفع اجرته ابو غازي . . كان البيت في محلة السفينة في الاعظمية، و يطل على نهر دجلة مباشرة في منطقة قَطْعٍ بُني بالاسمنت، تطل شبابيكه على ماء النهر مباشرة، و يقع جنب جسر الاعظمية القديم المشيّد على الدوَبْ (جمع دوبة) و كان لايسمح بمرور السيارات و يُسمح فقط بمرور العربات التي تجرها الخيول (الربل)، التي يحدث مرورها ضجيج متتالي " بلم بلم بلم . . " . .           

بعد شهور و بعد ان هدأت الخواطر، بادرت اخت محمد بزيارة العروسين صحبة صديقتها و نحن الصغار الذين اصابتنا الرهبة من بيت تصل مياه النهر العملاق الى مترين تحت جدار النافذة، و كنا ننظر بتساؤلات على الضحك العالي لمريم التي لاتعرف الخجل بحضورنا و على قدر عقولنا، و هي تشرح للضيوف عن ملابسها الداخلية الحمراء الممزقة المنشورة على الحبال لتجف قائلة :

ـ هههههههههههههههه هو محمد مايعرف يؤدي واجبه الاّ بعد تمزيق الملابس ههههههه. المهم الان استقلينا عن اهلي اللي كنت اخجل من النظر الى وجوههم و انا اخرج من غرفتنا كل صباح !!   

و لم انس الخوف و الرعب الذي اجتاحنا خلال  زيارة اهلي و نحن الاطفال بصحبتهم، ايام الفيضان بعد ان قلقت العائلة على محمد و مريم و خافت عليهم من اجتياح المياه لبيتهم و كان طوفان النهر بلونه الطيني قد وصل الى اقل من متر تحت حافة النافذة . . خاصة بعد  تصدّع سدة ناظم باشا الترابية وتدفق الماء مرعباً في منطقة الكسرة في الأعظمية و سُميّت المنطقة بـ " الكسرة"، و كان الماء مهدداً باجتياح المزيد من الأراضي المزروعة التي كانت تشكّل حزاما اخضرا حول بغداد اضافة الى البيوت والشوارع . . كان بيت محمد و مريم صامداً صموداً هادئاً . .

في وقت شهدت فيه الأعظمية، اثراء اشخاص و انكسار و فقر آخرين، بسبب معاملات حجز المياه و التموين و النقل و الادوية، والصراع بين الأخلاص والنزاهة والطمع في وقت تفشي الأمراض المعدية . .

و ظهرت حوادث لم تشهدها قبلاً، تزايد اللصوص و تكونت عصابات اختطاف الاطفال و ازداد ظهور الغرباء من غجر و كاولية و افغان، و قُتل ابراهيم العمر الموظف في التفتيش القضائي و ضاعت زوجته و طفله، اختفاء لطوّفي كاكا و نهب محله الفاخر، انفضاح رجال الأمن السريين و صاروا معروفين و كانت اعدادهم كبيرة . . و بقيت مقرات الجمعيات الخيرية و الجوامع و الكنائس تعمل ليل نهار و انتشرت البيانات السياسية التي تدعو الناس للتلاحم لإنقاذ بغداد  . . (يتبع)

3 /10 /2021 ، مهند البراك

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

                                                                                            

                                                                                                        ـ3ـ

                                                                                                 من الفضل الى مزهر                             

                                                                                                               

في مضيف ابو الهيل الكائن بين البساتين ، صاح عبد الإله :

ـ آس !! .  .  ياكل !!

فكشف اللاعبون اوراقهم معلنين عن خسارتهم ، و صاح سعدون بضحك :

ـ اهـ هـ هـ هـ ها . . و . . و . . و . . بغدادي و ما يتأمّن !!

و غلبت بذلك جماعة بغداد المكوّنة من جلال ابن الأغا ، ميرزا ، الموسيقي باسيان اضافة الى عبد الإله

و استمروا بالشرب على انغام المذياع الذي كان يبثّ اغنية " رباعيات الخيام " التي غنتها ام كلثوم

و جعلتهم يدندنون معها . .

فما اطال النوم عمراً ولا          قصّر في الأعمار طول السهر

ثم انصتوا لسماع جلال ابن الأغا الذي صعدت رغبته اسرع من العادة بتنفيس المكبوت، فانطلق باغنيته المفضلة واقفاً عند باب المضيف و هو ينظر الى جهة خيام الغجر . . التي بان قسم منها من بين الأشجار المحيطة :

" بغدادي و ما يتأمّن . .

و شلون حالي و شلون . .

سليماني و لافركاهم

عسى ما خيّبونا

.... خايب يا كلبي خايب على فراك الحبايب . .

فبعد انتهاء لعبة الورق الختامية ، كانوا يخرجون في العادة من المضيف الذي يحميه و يخدمه عدد من ابناء العشيرة ، ليستمتعوا بنسائم الصيف الليلية المنعشة بالقرب من النهر، و ليذهبوا الى السرادق المنصوب بمناسبة لقائهم، لتناول السمك المسكوف.

وفي نزهاتهم تلك صادفوا اكثر من مرة سماع اغنية بصوت نسائي جميل على انغام ربابة ، كان يأتي من مضارب الغجر . . وفي ذلك المساء سمعوا و هم منتشين نشوة زاد من حدتها الخمر . .

ام عيون حراّكه

كلي شو كت نتلاكه

فدوه رحت لعيونج .. خايف لايحسدونج

فردّوا جميعاً بصوت واحد وحّده السّكر و الطرب :

عيني و يابه عالهوى و اصحابه ..

كوليلي يا هالسمره . . نتلاكه ولو مرّة . .

واستمر الغناء و الطرب المتبادل بينهم و بين الغجرية على الضوء المتلامع للنيران التي كانوا يشوون السمك عليها والذي كان ينعكس على سرادقهم ذي الفوانيس  . . و قابلته النيران التي ازدادت تأججاً عند مضارب الغجر. ثم انطلقت معها اصوات نقر الدفوف و الصنوج و اغاني الغجر التي شجّعت غجرية انطلقت بالرقص بملابسها الملوّنة المتلامعة تحت ضوء القمر و ضوء تلك النيران . .

.   .   .

.   .   .

مع ضوء الفجر تثائب عبد الإله وتمطىّ قبل خروجه من خيمة الغجرية التي رقصت ، و توجه الى خيمة من خيام الغجريات ، ووقف عندها يصيح على سعدون :

ـ يا الله يا افندينا .  . صار الصبح !

وكرر بتمطيّ :

ـ صار الصبح .  .  يا سيدي !

ولم ينقطع صياحه حتى خرج سعدون من الخيمة و هو يعدّل شعره المنفوش . . ويربط حزامه جيداً و يضحك و يقهقه :

ـ شنو ؟ مستعجل ؟ ! بنت الأوادم .  .  كانت مثل الذئبة الجائعة، كسّرتني . .

ـ اعطيتها المقسوم ؟ لو لا .  . ؟ ؟

ـ طبعاً يا معوّد  .  .  و للصبح !! 

ـ ها ها ها . . ها ها هاي .

كان مضيف عبد المجيد بك ابو الهيل . . يقع في بستان اشجار البرتقال والحمضيات النامية تحت ظلال النخيل، مطلاً على نهر الفرات عند سدّة الهندية ، حيث بنى عبد المجيد بك بعيداً عن الأعين مضيفه الذي كان كالنادي ، و الذي كانوا يجتمعون فيه للعب القمار في نهايات الأسبوع. و كانت اللعبات تجري بين جماعته المكونة منه و من اخيه المعمم (اللابس الكشيدة بين حين و آخر الذي كان يقطع حلقة اللعب ليصلّي)، اضافة الى المحامي عبد المحسن و الملازم سعدون المتنقّل بين الجماعتين في اللعب و كان ينوب عنه عند غيابه ابن عمه مزهر .  . و الجماعة القادمة من بغداد. و هو المكان الذي عُقدت فيه الصفقات التجارية بين الجماعتين من جهة و ضيوفهم الذين كانوا يُدعَون للشرب و لأكل السمك المسكوف و للهو مع الغجر في مضاربهم شبه الدائمة هناك .  . في ايام الأسبوع . 

ورث عبد الإله ، الأبن البكر لأبيه ، ثروة كبيرة بعد ان اضيف اليها التعويض المقرر عن استملاك الحكومة لقسم كبير من الأراضي المزروعة و المراعي المطلة على مصب نهر ديالى بنهر دجلة، العائدة للعشيرة، بعد ان احتفظ بقطعة ارض غنية بمحصولها، اشتغل فيها و زرعها و عمّرها ابناء عمه الذين كان هو ينظّم لهم دخلها و توزيعه و يحتفظ بالقسم الأكبر كدخل شهري له و لأخوانه القصّر .

بعد ان  استطاع ان يضمن له حصة محترمة من تركة ابيه و امه عن طريق دائرة تسوية الأراضي  التي استطاع ان يتعيّن موظفا فيها بدعم اصدقاء له . .  لأجادته القراءة والكتابة الملائية من جهة و لأعتمادهم عليه في تسوية الأراضي و المنازعات على الأراضي الزراعية لصالح عشائرهم ، و امّنوا حمايته سواء كان ذلك مالياً او قانونياً بدفعهم بسخاء للمحامين الذين احتاجهم لأتمام ذلك . 

كان طويل القامة، ذا عينين مستديرتين و وجه جاد، واشتهر بكونه لاعب بوكر ماهر، و له شلّة نشيطة من لاعبين و من اشقياء اعتاشوا على مواخير الشرب و البوكر و الغواني . . بعضهم كان يعيش في بيوت محظيات وممن يحيين ليالي الطرب الساهرة حتى الفجر . . كان مغامراً و عنيفاً بلا حدود ان غضب، ولم يستطع احد ان يقف بوجهه او يحدّ من طيشه و هو يبذّر اموال العائلة و اموال اخوته الذين كان وصياً عليهم لعدم اكمالهم السنّ القانونية . .

و قد ضيّع قسماً كبيراً من ثروته تلك بصرفها على النساء واقامة الحفلات الليلية الساهرة في بيوت فارهة مغلقة، و بلعب القمار والسفر الى الشام و لبنان للمتعة و للترويح عن النفس و الأصطياف ، في زمان لم يكن فيه السفر امراً عاديّاً و لامأموناً .  .  الى ان استطاعت خالته القويّة " راجحة " ان تحدّ من نزواته ، بعد ان وصل اليها خبر خسارته الخان الذي ورثه هو و اخوانه اليتامى القصّر عن ابيهم ، في القمار . حيث تحدّثت معه بصرامة و هددته تهديداً مخيفاً بان العائلة ستتبرأ منه وسيبقى كالكلب السائب وحيداً ان واصل سلوكه الشائن ذلك في تبذير اموال اليتامى على موائد القمار و في احضان الغانيات . 

واقترحت عليه بكلام اعتبره الحاضرون من الأهل و كأنه امراً، لما تمتعت به من هيبة و قوة ، نبعت من شجاعتها و عدم تهيبها من احد في قول الحق، الذي زاد من مكانتها الأجتماعية ، التي حققتها كقارئة مواليد معروفة ، في عوائلهم و مناطق سكناهم في محلة " خضر الياس " في الكرخ القديمة و المناطق المجاورة لمناطقهم ، وكانت الوحيدة من العائلة التي لاتخشاه ، بل كان هو الذي يهابها لسبب لم يُعرف، و قيل انه كان يخاف منها لأنقاذها حياته مرتين في طفولته، و كشفت مواقع ضعفه في ظروف مرعبة مرّت بها المحلة و اهاليها.

احداها في طفولته حين كاد يغرق في الساقية القريبة من سكنهم، والثانية حين انقذته من الأختناق و هو صبي في حريق كبير لفّ المحلة و هددها بالفناء، حيث شبّت النيران في مخازن الحبوب المجاورة، و كادت تلتهم المحلة كلّها . . حين ضربته ليتحرك وادخلت الرعب في قلبه بعينيها النافذتين ذات البريق المرعب، و بوجهها المشدود المزموم الشفتين، ضربته كي يطيعها بسحبها ايّاه، وهو يصرّخ و يرفّس . . ومنذ ذلك الحين كانت حينما تعبّس و تتحدث بجد موجهة كلامها اليه، يترائى له  وجهها المشدود المزموم الشفتين ، وكأنه وجه من وجوه عزرائيل القادم ليقبض على روحه و يقتله . . فيرتجف و لايجسر ان ينظر في عينيها .   

قالت له بوجه عابس يتذكّره جيداً، امام جمع من الأهل :

ـ عبد الإله !! هل نسيت عندما جئت الىّ تبكي لشعورك بسبب رعبك لوفاة والدك الذي مات الله يرحمه من الحزن الشديد  على والدتك التي رحلت قبله بشهور . . حين قلت لي بملئ فمك " خاله . . لقد ضعنا . . امسينا انا و اخوتي بلا بيت " ، وقلت لك لاتبتأس ابني انا في مكان المرحومة امكّ ، و بكيتَ انت من الفرح وصحتَ " صحيح صحيح ؟ ؟ من اليوم انتِ اميّ وسأكون ابنك المطيع دوماً " وقلتُ لك احلف بالقرآن امامي بذلك ، و حَلَفتَ .  .  .  صحيح ام لا ؟؟   

قال و هو ينظر في الأرض مبتعداً عن نظراتها، و بعد سكوت :

ـ صحيح !

ـ اذن اسمع لاحل لك سوى ان تتزوّج ، واخترت اليك خير عروس في اخلاقها و وفائها .  .  سأزوّجك ابنتي لأوفي بواجبي نحو امك وابيك و اخوانك ، وسأكون انا المسؤولة عن البيت .  .

ـ  .  .  .

غضبت لسكوته و نظرت اليه بعينين قاسيتين و بوجهها المشدود الذي كان يثير الرعب في قلبه ، و قالت :

ـ ويلك !! جاوبني بصوت عالي امام الجميع .  .  لاحل آخر هناك ، انت تضيع في النزول (جمع نِزِلْ) و المسافرخانات و على اقدام العاهرات، و الصغار اليتامى اخوانك يضيعون في بيوت اعمامك و خالاتك ! .  .  جاوب !!

رفع عينيه في محاولة يائسة لمواجهة نظرتها تلك ، الاّ انه حوّلها عنها لعدم استطاعته مواجهتها ، ونظر الى الأرض و قال :

ـ انا موافق !!

ـ حسناً ابني ، ستكون انت رجل البيت !

تزوّج عبد الإله ابنة خالته الكبرى رسمية، و انتقل الجميع ، عبد الإله و اخوانه اليتامى و عروسه و اخواتها وامها ، من " محلة خضر الياس" في الكرخ الى البيت الكبير الكائن في محلة " الفضل " في جانب الرصافة من بغداد، الذي ورثته الخالة راجحة من زوجها المتوفي. و كان البيت يقع في المنعطف الأخير لزقاق جامع محمد الفضل في محلة الفضل في الرصافة، الزقاق المتعرّج البادئ و المار بباب الجامع من جهة شارع غازي الذي صار اسمه شارع الكفاح، المفضي الى ازّقة متعددة تنفتح على ازقة محلتي السور و الميدان .

وكان الدخول الى المحلة يبدأ بزقاق ضيّق وسط بيوت وشناشيل بغدادية قديمة لم تنقطع مياه الصرف الصحي الوسخة عن الجريان في ساقيته الوسطية والتي تصبّ نازلة بخرير مسموع الى ساقية الشارع العام . . شارع الملك غازي، الموصل باب المعظم بالباب الشرقي . 

بقيت ليلة دخلة عبدالاله على زوجته، مرتسمة بشكل مخيف في خياله، و يبدو ان ماقالته الصانعة ابنة قمرية الغسالة عن تلك الليلة كان صحيحاً، حيث قالت :

ـ اعددت قهوة ثقيلة و حملتها للعرسان كما امرتني الآنّه ( الجدة بالتركية) و اغلقت الباب بعد ان خرجت، و شاهدت  الآنّه جالسة في الظلمة قرب الباب . . و بعد فترة رأيتها تنظر من ثقب الباب و هي تصيح :

ـ ليس هكذا . . ولك حيوان بهدوء و على كيفك مو راح تقتل الصبية !!

ـ ارفع !! ادخل ادخل دخّل هسه . . ادفع حيوان !! 

وكانت تلك الذاكرة تسبب له اضطراباً يؤدي به الى عدم القدرة على مواصلة الوقاع بسبب العنّة التي كانت تصيبه مع كل انثى جديدة يقابلها لأول مرة، او يشعر بأنه مُجبَر عليها، و بالعكس فانه يحسّ بالهياج الشديد ان شعر هي التي مجبرة عليه، و انه هو المنتصر !! هكذا كان يفكّر . . و كان الغواني يفسّرنه بأنه (الادمان علينا، و هو نوع من الادمانات)  !!   

.  .  .

.  .  .

مرّت السنين و رزق عبد الإله ببنين و بنات ، و تزوّجت اخوات زوجته رسمية و سكّن في بيوت تقع في محلات اخرى من بغداد، و بقيت الخالة راجحة و اخوه الصبي " رحيم " بعد وفاة اخوين من القصّر احدهما بالكوليرا و الثاني بالتيفوئيد و بعد تبني الخالة الوسطى و الصغرى للأخوين الآخرين ليعيشا في بيتيهما مع اطفالهما  .  .  عاشت الخالة راجحة على حصتها الشهرية من عائد الحمّام الذي اورثه ابوها لأخوانها و لها، و عاش عبد الإله و عائلته على راتبه الشهري و على ماتدرّه الأرض المتبقية من الورث الذي كان يصرف منه على اخوته . و لم يعرف احد موارده الأخرى الكبيرة من عوائد تسوية الأراضي التي كان يصرفها له ملاكو ارض كبار، الذين كان يعمل لهم كوكيلهم في سراي الحكومة . 

.  .  .

.  .  .

ورغم كونه رجل البيت و مسؤوليته عن عائلة كبيرة منها عائلته هو ، زوجته و بناته و ابنائه، استمر عبد الإله بخفاء محكم على لعب البوكر، و على تكوين حلقات جديدة فيه ، واستمر على السهر على موائد القمار  . . التي كانت تستنفذ مدخوله الشهري من وظيفته. في زمن شاعت فيه العاب الحظ و قراءة الفنجان و اعمال العرّافات . . و شاعت فيه بطاقات سباق الخيل و اليانصيب و العاب الورق ، التي اشتهرت منها لعبة البوكر و البقرة التي اعتبرها عبد الإله . . محاولة للحصول على اعلى الأرباح كمورد بجهد الفرد و حظّه و تطويع الحظّ سواءً بالخديعة او التهديد ، و سعى بدأب على تشكيله الشلل و التعاون مع شلل اخرى لتحقيق الأرباح و تجنب الخسارة . .

وتكونت حلقة لاعبين شبه ثابته تكوّنت من جلال ابن الأغا ، ميرزا ، الموسيقي باسيان اضافة الى عبد الإله، و اخذوا يفوزون بلعب الورق بشكل شبه مستمر، جمعتهم القرابة و الصداقة و المصالح اليومية والوظيفية، والأسرار في  ممارسة الممنوعات ، التي مارسها رجال من عوائل شكّلت قسماً واضحاً من وجوه عوائل المجتمع البغدادي آنذاك . .  من ملاكي الأرض و موظفي الحكومة و رجال في الشرطة والجيش ، فيما شاعت عادات عدد كبير من موظفي بغداد ان يلتقوا كل شهر عند استلام الراتب، للعب و اللهو و ارتياد دور البغاء . 

و قد اعتادت عائلة عبد الأله على غيابه عن البيت لأسابيع بين اونة و اخرى ، لسفره الى " الهندية " و قضائه اياماً هناك ، لإدارة اعماله و عقد " صفقات تجارية " كما كان يقول . . و كان في العادة يعود محملاً بالفواكه و الخضر من الهندية و بحلوى التمر المضغوط و المطعّم بالجوز و اللوز من كربلاء هدايا للصغار الجدد ، بعد ان كبر و شبّ اخوه رحيّم الساكن في بيته وشبّ ابناؤه هو ، حيث صار رحيّم معلما في بعقوبة بعد ان تخرّج من دار المعلمين الريفية ... مجسدا طموحه بالأستقلال عن اخيه. و صار ابنه يقظان طالباً في الثانوية و صديقاً لأخيه الصغير صلاح . .

. . . .

. . . .

و بالحقيقة لم تكن تلك " الصفقات التجارية " سوى اتفاقات على اعداد بيانات بملكية الأرض و تثبيت عائديتها لأفخاذ و عشائر، كان يعدّها المحامي عبد المحسن من خلال علاقاته بمحامين و موظفين كبار في اسطنبول حيث كانت تأتي مختومة و مصدّقة من الدوائر العثمانية مقابل عمولات و هدايا، و كان يثبّتها عبد الإله في دائرة تسوية الأراضي في بغداد بهدايا و رشاوي، في الوقت الذي كان فيه الضابط سعدون يهدد من لايوافق من الملاكين الصغار بالقتل او بحرق الدار و سبي النساء، عاملاً على إثارة الضغائن و الأحقاد و الثارات القديمة، مستنداً الى ابناء عشيرته وخاصة على ابن عمه مزهر الذي ذاع صيته بالشجاعة و الكرم من جهة ، و بالأنتقام العنيف الذي لم يعرف الرحمة، تجاه من لم يمتثل لما يريد و فق مشيئة شيوخ العشيرة، (الذين يحمون البلاد من الأنكريز) ، و (لكي لاتقع الأرض بايدي المحتلين الكفار) كما كان يردد .

اشتهر مزهر الذي غزا الشيب رأسه مبكراً ، بشجاعته منذ صباه و سمي باسم " مزهر ابن وجيهة " . . وجيهة الأم الشجاعة التي تجيد الرمي و اصابة الاهداف و حملت بندقية زوجها الضابط العثماني، لمقاتلة الأنكليز اثر مقتله برصاصهم في معركة " كوت الإمارة " الشهيرة في جنوب العراق، بعد ان غاب اخواها في معارك البلقان . . و هي الشاعرة التي اشتهرت بقتل ذئبين، عُلّقا على حائط غرفة الضيوف بعد تحنيطهما.

وعرف عن مزهر رحمته و عطفه على فقراء الفلاحين و على عموم المحرومين من اية قومية كانوا، شرط ان لايكشفوا عطفه عليهم، ويغضبوا الشيوخ، و خاصة الأكثر شدة منهم تجاه فقراء الفلاحين . . عشق ابنة خاله سالمة، التي نذرتها امها وقفاً لسيّد معمم من آل البيت، و سبب ذلك له الماً ممضاً دام طويلاً . .

بعد قتاله و ربعه من العشيرة، العشيرة الجارة من اجل الماء الضروري لسقي مزروعاتهم و سقي مزارع ابو الهيل، اكتشف ان ابو الهيل كان على علاقة قوية بالأنكليز عن طريق الاقطاعي الكبير الشيخ بلاسم صديقه الحميم من ايام سفره الى لندن، عندما استنجد به لمواجهة الفلاحين الثائرين المطالبين بحقوقهم اثر الجفاف الذي اصاب الأرض في ذلك العام . . فأخذ مزهر يعيد النظر بمواقفه و يرى عدالة مطالب الفلاحين الفقراء . .

و تحوّلت ثورة الفلاحين تلك الى ثورة ضد حكومة نوري السعيد و طاقمه، التي واجهتها بالرصاص و بقصف الطائرات و ادّت الى سقوط مئات الفلاحين قتلى و جرحى، و لم يتمكن من اخمادها، و لم تستطع الشرطة السيارة ايقافهم عند حدّهم، بل تقهقرت بعد ان تكبدت بخسائر كبيرة بالأرواح و المعدات . .  و وصل الأمر الى قصف الطائرات البريطانية لقرى الفرات، بعد ان انتشرت الإنتفاضة الى مناطق الغراف و الحي . .

و اخيراً تمكنت السلطات بوضع كل القوات المسلحة تحت اقصى حالات الإنذار و ساقت كل ماممكن سوقه و بدعم القوات البريطانية لإخماد الإنتفاضة باسرع ماممكن و بكل الطرق الممكنة و الوحشية و اللاأخلاقية، و هي خائفة من تجدد انتفاضة كردستان . . و القي القبض على آلاف العوائل الفلاحية و العشائرية و عوملوا بكل الاساليب الدنيئة . .

و عند جلب مزهر و عشرات الفلاحين و هم مكبلين بالسلاسل للتحقيق في محكمة الحلة، بعد ان تم نقلهم من سجن نقرة السلمان، الى موقف سجن الحلة الواقع في السراي . . اندلعت انتفاضة نساء الفرات بتحريض و قيادة والدة مزهر " وجيهة الشاعرة " و وصلن الى سرايا الحكومة، و واجهتهم وحدات من الخيّالة و وحدات خاصة بملابس لأول مرة تظهر و واجهنهن بقنابل الغاز المسيّل للدموع و بأخامص البنادق حتى اصيبت الخالة وجيهة و رفيقاتها بوجههن و لم ينقطع نزيف الخالة وجيهة و استمريّن مطالبات باطلاق سراح ابنائهن و ازواجهن و ابنائهن و ادخالهن الى قاعة المحكمة . . و سمحت السلطات البريطانية بمكالمات لاسلكية سريعة بادخالهن الى قاعة المحكمة و اسعافهن كي (لا تموت احداهن و تزداد الانتفاضة استعاراً) . . كان ذلك يجري و وثبة كانون 1948 كانت ملتهبة على اشدّها . .

حُكم على مزهر ابن وجيهة بالسجن المؤبد بتهمة ( قتل شرطة و مدنيين ابرياء و العبث بأمن الدولة) و العفو عن والدته التي أعتبر وجودها بالمحكمة كتوقيف لها يُسجّل في ملفّها الأمني. و سُجن مزهر انفرادياً و سيق الى سجن نكرة السلمان لقضاء محكوميته . .

و طول الطريق كان يُفكّر و يردد مع نفسه، انه رغم المعركة العنيفة التي حصلت مع عشيرة ابو الهيل التي تكشّف فيها من هم الشجعان و من هم الخونة الجبناء و المتواطئون مع الحكومة و الانكريز، اكتشف ان هناك قوى متنوعة منظّمة تقاتل الأنكليز، و اخذ يبكي بصمت و هو يتذكّر مقتل زوجته التي بنت له حبّاً لم يحلم به، و هام بها . .  كيف قتلوها و هم يعلمون بغيابه، اثناء هجوم الشرطة بالرصاص و دون انذار، على بيته في القرية ؟؟ . .

كسبه سياسيون في المعتقل المؤبد . . و بقي يتذكّر فلاحاً شاباً منهم اسمه كاظم الجاسم الذي سحره بشجاعته و ماروي عنه من مواقف بطولية، و بقي يتذكّره و يتذكّر حججه في الجلسات معه عن الفلاحين الفقراء و عن ثورة اكتوبر، التي حققت مطالب اوسع كادحي روسيا الكبرى في نهاية الحرب العالمية الاولى و كانت جيوشها القيصرية قد وصلت الى خانقين و رواندوز التي دافع اهلها الشجعان ببطولة عن المدينة و افنيت كتيبة خيالة روسية كاملة بسقوطها في هاوية احد القطوع الجبلية الرهيبة المحيطة بالمدينة التي منذ ذاك سميّت تلك الهاوية بـ (وادي الموت) ، و كيف راسل قادة ثورة العشرين في البلاد قائدها (ايلين) و نقاشاتهم مع مبعوثيه ، و اكتشف ان الشيوعيين و دعاة القومية العربية و الكردية التحررية موجودون فعلاً و يناضل الجميع من اجل الخبز و الحرية و حقوق الفلاحين الفقراء، و تعرف و اختلط مع وجوه مدينة الحلة و بغداد و كل مدن العراق و اشترك في الصفوف الثقافية التي كان ينظمها الشيوعيون في السجن الكبير . . ليصبح مزهر آخر بمعارفه و ثقافته ! ( يتبع)

 7 /10 / 2021 ، مهند البراك

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

                                                                                             

                                                                                                     ـ 4 ـ

                                                                                                                                                      

                                                                                                  يقظان

 

بعد تعارفهما في صفقات الهندية و انسجامهما في الشرب و الورق و (الدفاع عن امتلاكهم) من ارض الآباء و الأجداد باي سلاح كان .  .  ازدادت صداقة عبد الإله مع الضابط سعدون وثوقاً ، فاضافة لأنسجام اذواقهما و انطلاقهما اللامحدود في الحياة، فلأنهما يعودان لعشيرة واحدة سكنت و انتشرت في وسط البلاد و مدنها و اريافها، ولحاجة بعضهما للبعض لرعاية مصالح العشيرة و اراضيها و تثبيت و زيادة ملكيتها . .

و توطدت علاقتهما التي زادتها حاجة كل منهما للآخر . . فالسيد عبد المحسن ابن عم الضابط سعدون كان محامي و وجه عشيرة هامة دعمت الدولة التي احتاجت دعمها لتثبيت كيانها .  . واضافة الى ما جنياه من تعاونهما سواءً في العمل او في ربح البوكر . . جمعتهما هوايتهما في مطاردة  الجميلات في كل الأماكن ، من البانسيونات و حتى مواخير الدعارة الرخيصة طمعاً في نيل (بدور خاتون) الغانية التي اشتهرت بحسنها و جاذبيتها في المبغى العام في الميدان، التي اتخذها عبد الإله محظية لنفسه و كان يغطيّ كل صرفياتها.

سمعت الخالة راجحة عن قضية بدور خاتون التي اختطفها اشقياء عملوا لصالح احد الوزراء و اعادوها بعد ايام !! من احد عمال الحمام الذي سلّطته لمراقبة سلوك عبد الإله، و الذي كانت تجزل له العطاء، و فاجأت عبد الإله بسؤاله ذات يوم :

ـ ابني شنو قضية بدور خاتون  في ملهى جواهر ؟؟ يعني ماتجوز من هالسوالف المكسرة ؟؟

ـ بدور منو ؟؟ . . .

و باختصار ارسلت الخالة راجحة الى بدور خاتون مهددة ايّاها بترك عبد الإله صاحب العائلة و البنين و البنات ابن العائلة المعروفة و الاّ فانها ستُقتَل !! و منذ ذاك لم يُسمع عن بدور خاتون في المبغى، و قيل انها رحلت في ليلة ظلماء بعد ان تلقّت تهديدات بالقتل . .

. . . .

. . . .

اما الامور في بيت عبد الإله فكانت تجري بعيداً عنه تماماً و عن اهتماماته و سيطرته . . شبّ ابناؤه بعيداً عنه و خاصة ابنه البكر يقظان الذي كان طالباً مجتهداً لامع الذكاء و ذا شخصية قوية مبكرة، استطاع ان يكوّن علاقات صداقة و محبة ليس مع زملائه الطلاب فحسب و انما مع اساتذته و عوائلهم الذين من حسن و متانة اخلاقه، فتحوا له بيوتهم و امّنوه على بناتهم اللواتي بذل جهداً كبيراً في مساعدتهن على النجاح في مدارسهن . .

كان يقظان هو الابن الحقيقي للخالة راجحة برجاحة عقله و شجاعته، و كان هو ربّ العائلة الخفي الذي كان يحل مشاكل والدته و اخوته و يساعدهم على الوقوف بشكل هادئ بوجه والدهم القاسي الذي كان عنيفاً مع بناته و ابنائه حتى بعد ان شبوّا، و الذي كان يعتقد ان طريقته هي الطريقة الصحيحة للتربية بالخوف و العنف، رغم انه كان يشجّع بناته على الدراسة والتعلّم و لكن على حدّ عصاه . . وقد ولد اسلوب عبد الإله من الصراع بين مشاعره الرقيقة و حنانه، وبين متطلبات المجتمع القاسي و محيطه هو الذي كان يعيشه و خوفه على عائلته منه . . 

و كان ما يقويّ شخصية و مواقف يقظان، هو الدعم الذي اولاه له خيرة وجوه و عوائل بغداد آنذاك و فتحوا له ابواب بيوتهم ان احتاج لشئ، بل و اوصلوا رجاءاتهم الى عبد الإله بالرأفة مع يقظان و اخوته، سواءً مباشرة بالحديث معه او عن طريق نسائهم بالحديث مع رسميّة زوجته . . حتى وصل الحال الى زيارة الشخصية السياسية البغدادية المعروفة جعفر ابو التمن لعبد الإله في بيته في الفضل طالباً منه الرأفة بابنه يقظان . . زيارة ادهشته و اثارت العديد من التساؤلات لديه و على رأسها، من اين يعرف السياسي البارز ابو التمن، يقظان ؟؟ . . و اخذ يحسب حسابات جديدة في التعامل مع قحطان كندّ قد لايصح التعامل معه بالضرب و الحذر من سلوكه الطائش معه احياناً !!

و بالتالي اضطره سلوك والده تجاهه، بأن ترك يقظان بيت العائلة و اتخذ من احدى المقاهي التي كان صاحبها والد صديقه الحميم علاء، اتخذها كمقر، يدرس فيها كتبه المدرسية و غيرها، التي جلبها معه ليبقى متفوقاً بالدراسة و ليختار اية كلية يريد الذهاب اليها بحريّة، و كان ينام فيها و يلتقي باصدقائه فيها، او ليتمشّى مع من يزوره منها . .

و بمرور شهور نجح يقظان من الإعدادية بتفوق غير عادي و استلم قبوله في كلية طب العاصمة بغداد من جهة، و من جهة اخرى ازدادت و برزت نشاطاته السرية ضد السلطة الملكية عميلة الاستعمار البريطاني، حتى صار كادراً سياسياً سريّاً بارزاً، بل و صار قيادياً يسكن في بيت قيادي سريّ في محلة حمّام المالح القريبة من الفضل، كحماية له و لغيره من الكوادر . . اثر الحملات البوليسية القاسية المتواصلة على الحزب و على نشيطاته و نشطائه . .               

كان عبد الإله يستفقد ابنه بانواع الطرق و كلّف عديدين بالسؤال عنه و عن حاجاته ان احتاج لشئ، و لم يستجب الإبن له و انما حافظ على علاقاته الاخوية مع اشقائه و شقيقاته و كانت لقاءاته الخفية معهم تطمأنهم و تزيل الوحشة و القلق عليه . . و عندما علم عبد الإله بنشاط ابنه السياسي (الخطير)، ثارت ثائرته و طلب من عدة محامين و اساتذة و ضباط شرطة ان يثنوه عن نشاطه دون جدوى . .

حتى انه اتهم اخوانه صلاح و رحيّم و هددهما بالقتل ان لم يكُفّا عنه، لأنهما بنظره هما المذنبان بحق ابنه بأحاديث عمّه رحيّم و استفراده به لساعات و ساعات . . و من ساعة اعارة صلاح ليقظان رواية " الام " لمكسيم غوركي، التي (طيّرت عقله و افقدته صوابه) و ساعة ماعرّفوه على العاهرة الصغيرة بنت البستاني . . التي كانت في الحقيقة ناشطة سياسية و زميلة يقظان في الدراسة. اتّهم اخويه لأنهما كانا صديقاه الاقرب من العائلة.

و في غمرة الغضب نسى، ان ابنه الثاني يمان كان هو السند الوفي لـ يقظان، الذي كان لايطيق اباه، يمان الذي لم يكن مجتهداً في الدراسة، و لكنه لم يقبل ان يمدّ يده لأبيه لأخذ خرجية يومية منه، فعمل عاملاً باجور يومية في مكتبة اشتهرت بنشر وتوزيع وبيع الكتب " مكتبة المثنى "، اضافة الى عمله بالقطعة في عدد من مطابع شارع المتنبي عند مدخل سوق السراي . اما الأبن الثالث فعمل كعامل نفط في مصافي النفط الحكومية في الدورة و بقي في الدراسة المسائية لنفس الاسباب .

. . . .

. . . .  

و في احد الأيام، كان عبد الإله جالساً  مع شُلّته في مكتب محامي عندما اخبره صديقه جلال الآغا . . باعتقال و كبس وكر لقيادة شيوعية في حمّام المالح بينهم ابنه المذكور اسمه الكامل (يقظان عبد الإله خضر الياس) . . و عرض عليه الخبر في صحيفة حكومية كان يحملها معه، الذي نصّ :

" بنشاط الشرطة الجنائية في مكافحة القوى الهدّامة، تم كبس وكر شيوعي خطير في محلة (حمّام المالح) في الرصافة، و كان يحوي على ادوات طباعية و على آلاف المنشورات . . و تم القاء القبض على من فيه، بينهم نساء لم يتحقق بعد عن هويّاتهن، و عُرف ان احداهن هي زوجة احدهم وفق عقد الزواج الشرعي المرقم و المؤرخ . . "

و يفصّل الخبر اسماء المقبوض عليهم من بينهم : يقظان عبد الإله خضر الياس !! . . . دارت الدنيا بعبد الإله و التزم الصمت مفكراً كيف ؟ و لماذا ؟ و من المسؤول ؟ و من اجل ماذا ؟؟؟ و استلم بعد ايّام من مركز شرطة الفضل كتاباً رسمياً بنص يطلب منه الحضور الى " جلسة محاكمة (المجرم الشيوعي الصهيوني الخطير) يقظان عبد الإله خضر الياس في الساعة و التأريخ المحددين . . ".

وقّع على التبليغ بعيون حمراء غاضبة و هو يردد مع نفسه :

ـ يا اولاد الزنا . . ابني و اعرفه !! يمكن ان تقولوا كل شئ عنه بس لا هو مجرم و لا خطير و لا صهيوني . . يا كلاب يا مجلوبة، كلاب مجلوبة !!!!!     

و التزم البرّاني (غرفة الضيوف) بصمت و جلس وحيداً و دخل في موجة بكاء صامت و الدموع تنحدر بسخاء من عينيه و تبلل خديّه اللذين لم يُحلقا من ساعة قرائته ذلك الخبر المشؤوم و هو يردد مع نفسه :

ـ ليش حبيبي يقظان ليش تنطي نفسك بهالسهولة لهالشرطة القذرة ؟؟

كان يبكي على كل الأشياء بكاءً مرّاً ، على نفسه لفشله بالسيطرة على ابنه البكر و على ثورانه

عليه . . ابنه الذي ثار على التقاليد المتمسك بها هو عبد الإله حتى صار عبدأ لها، و على يقينه هو بأن النظام القذر القائم على البلاد لن يزول، برغبة و احلام و اوهام شباب لم يعرفوا الحياة بعد و لم يتلظّوا بنارها، كما كان يردد . . كان ناقماً على الجميع بما فيهم نفسه، كان ناقماً على اخويه اللذين ورّطا ابنه و لم يصبهم شئ !  

و لم يذهب عبد الإله الى المحكمة لإحتقاره لها و غضبه عليها و غضبه على ابنه و على الحكومة و على الناس الذين تركوا ابنه ضحيّة لأوباش !!

سيق العشرات من المقبوض عليهم الى محكمة العسكري النعساني السئ الصيت، الذي حكم على اساس تراتبية وقوف المتهمين : من رقم 1 الى رقم 10 يحكمون بالسجن 10 سنوات ، و من رقم 11 الى رقم 20 بالسجن 20 سنة . . . 

و ( حُكم على المتهم يقظان بالسجن لمدة 10 سنوات، يضاف لها 10 سنوات اخرى لسلوكه اللاأخلاقي في الجواب على سؤال سيادة الحاكم . . )

و كان الحاكم قد سأله :

ـ من تقصدون بالاذناب في عبارة (الاستعمار و اذنابه) ؟؟

و اجابه يقظان : هم انتم !! الذين حطّمتم البلاد و افقرتوها بنهبكم و سلبكم و قوانينكم و اسلحتكم، تنفيذاً لأوامر المستعمرين !!

كان عبد الإله ناقماً على اخويه، و ان كان قد صفع اخاه رحيّم عدة مرات و بصق عليه، فإنه طارد اخاه الآخر صلاح بمسدسه ناوياً اطلاق الرصاص عليه، لأنه المسؤول الاول في توريط ابنه و لم يصبه شيئاً من عقوبات الحكومة، كما كان يفكّر . .

. . . .

. . . .

بعد ان هدّأت من روعه، قالت الخالة راجحة لعبد الإله :

ـ ابني ليش ماتزور ابنك كما تفعل عائلات السجناء، عليك ان تسنده لأنه ابنك و يبقى ابنك الى يوم القيامة . . 

لم يجبها بشئ و بقي محتفظاً بصمته . . الاّ انه استغرب من كثرة الزائرين للسلام عليه و لتقديم استعدادهم للقيام بأي شئ للبطل يقظان، و كرروا عليه : " هذا الشبل من ذاك الاسد" . . و هو باقٍ في صمته، و دخل في عالم تفكيره و تساؤلاته . . اذا هو بهذا الشكل بطل و هم يحبونه بهذا القدر، لماذا لم يحموه او يدافعوا عنه . . ليسوا اكثر من كذّابين و جبناء و سرسرية !! 

و في زمان لم تفهم فيه الناس التعابير القانونية الحكومية و ماذا تعني و لاتقدّر خطورة التعابير النحوية بخصوص ذلك في الصحف و الراديو، كما حصل مع التاجر المعروف الطعّان عند اعتقال ابنه بتهمة الشيوعية، الذي قال امام الحاكم :

ـ انه شاب صغير لايفهم . . و كل ما هناك انه شيوعي متطرف . .

الحاكم : يعني هم شيوعي و هم متطرف، هذا يعني هو من اخطر انواع الشيوعيين !!

ـ لا سيّدي ، اقصد انه على طرف، يعني يمكن صديق لبعض منهم على طرف ، يعني مو منظّم و عنده سلاح و قنابل و و و

و على ضوء افادة الوالد قررت المحكمة :

تفتيش بيت التاجر الكبير الطعان و الحكم على ابنه المتطرف لمدة 5 سنوات و على الاب بالتوقيف لمدة 20 يوماً لمحاولته تضليل العدالة !!

. . . .

. . . .  

بعد نقل المحكومين السياسيين الى موقف شرطة السراي تمهيداً لنقلهم الى سجن نقرة السلمان . . . قالت زوجة خال يقظان، الاستاذ حسين مدير المدرسة الثانوية في الكرخ و نقلاً عنه :

ـ تلقيّت دعوة من مكتب رئيس الوزراء نوري السعيد محدداً فيها التاريخ و الساعة، و لم يذكر فيها اسباب الدعوة، لأننا كنا نتلقى دعوات كمدراء ثانويات لبحث مشاكل ثانوياتنا، خاصة و ان طلابنا شباب مطلوب الانتباه عليهم . .

ذهبت الى المكتب و كنت وحيداً و سألت مدير المكتب، ماذا عليّ ان افعل ؟ قال تنتظر قدوم الباشا رئيس الوزراء شخصياً !! اعتراني خوف حقيقي اذ ماذا يريد رئيس الوزراء منيّ شخصياً ؟؟ و بعد انتظار قصير، جاء رئيس الوزراء و وقفت لتحيته و ردّ تحيتي قائلاً و بشكل مباشر :

ـ اهلاً استاذ حسين . . احنا عيّناكم مدراء ثانويات لثقتنا بقدراتكم و لكونكم من عوائل معروفة تحترمها الناس و تثق بكلامها . . و ما حصل من ابن اختك يمكن اصلاحه، عليك الحديث معه بان يترك الحزب و يعلن ذلك في الجرائد، مقابل اننا سنرسله ببعثة دراسية الى انكلترة باي فرع يحب، لكونه طالب متفوّق و ذو اخلاق عالية . . سنرتّب لك مقابلة شخصية فوق العادة و بشكل سريّ معه في مكان معزول عن موقف السراي، و عليك ان تبذل جهودك في ذلك و نحن واثقين من نجاحك، و الاّ ستسجّل نقطة ضدّك هاه !! احنا لا يمكن ان نسكت عن تنظيم هدّام لا ينتهي رغم انواع الضربات !!

و هكذا التقيت بـ يقظان بعد ان جلبوه و هو مكبّل بالحديد، كان هادئاً ثابت الخطو، حيّاني و لم اجد نفسي الاّ واقفاً لتحيته . . اخبرته بما جرى لي بمقابلة رئيس الوزراء و انه هددني و و و قال :

ـ خالي العزيز احييك على مجيئك و عنائك . . نحن ابناء هذا الشعب الذي ينتظر منّا نحن الواعين اكثر من غيرنا، ان نصون مطالبه و نسعى الى تحقيقها مهما كانت التضحيات التي يعيشها كل الناس يومياً في حياة لا يقبلها حتى الحيوان . . اما عن البعثة الدراسية فانا كنت قد حصلت عليها عند ظهور نتائج الامتحانات الوزارية و رفضتها، امّا ان تريدني ان اكون خائناً للقضية و لرفاقي فانت الاعرف، انت المربيّ الفاضل الذي لا اعتقد انك ترضى بذلك !  

و قال الاستاذ حسين : شعرت بأني امام قائدٍ باسلٍ كنت فخوراً باللقاء به، و خجلت من نفسي و حييته و خرجت و انا لا استطيع حبس دموعي بعد ان تمنيت له التوفيق و الصحة و الصبر و انا اضغط على يديه المكبّلتين بكل حرارة و اردد مع نفسي . . انعل ابو الوظيفة !!

و قد عوقب الاستاذ حسين على فشله ذلك، بتأخير ترفيعه الذي كان يستحقه ذلك العام، لمدة عامين !!  

. . . .

. . . .

و بفعل الصدمة من يقظان و مما جرى له و شجاعته في مواقفه، و تأييد الناس له و زياراتهم و تحياتهم و ابدائهم الاحترام اكثر له، و تزايد السريين في مراقبته هو و عائلته . . صار عبد الإله رجلاً آخر، بعد ان تحوّل ابنه البكر يقظان الى قديّساً من القديّسين المناضلين في سبيل قضية الشعب و تضحياتهم بكل شئ في سبيله، و استعدادهم لمواصلة النضال رغم قساوة السلطات تجاههم . .

صار عبد الإله رجلاً آخر . . فابتعد عن المجون و عن الحفلات الصاخبة للشرب و لعب الورق، رغم استمراره على الشرب و الورق في البيت صحبة اصدقائه القريبين بين حين و آخر، و تغيّرت معاملته لزوجته و ابنائه و صار اكثر حرصاً و دفئاً معهم . . الاّ انه بقي على قراره بعدم زيارة ابنه خوفاً من بكائه امامه !! خوفاً من بكائه امام ابنه القديّس الطاهر و منظره و هو يساق امامه على يد رجال شرطة حقراء، ادوات للأحقر منهم !! (يتبع)

 11 /10 /2021  ، مهند البراك

 

 

 

 

 

 

 

عرض مقالات: