سلاماً اخوتي، سلاماً لحضوركم. وسلاماً لاننا جميعا نعمل من اجل الافضل، لأننا نريد كتابة افضل وحياة افضل وعالماً آمناً افضل، وسلاماً اخوتي لأننا نفكر ونعمل من اجل البشرية كلها ومن اجل انفسنا لأننا بعض منها.

هذا الكلام يوجز الافق الفكري الذي اكتب فيه، وسواء كتبت قصيدة او ترجمت او كتبت عموداً صحفياً او مقالة، فأنا لا أتخلى عن متطلبات هذا الافق، الافق الانساني المستقبلي، الطريق للحياة الجديدة.

وهو هذا معنى ان يكون الانسان تقدمياً، ان يعمل من اجل الانسانية ومعها في نضالها وهي تزيد حقوقها المدنية وسلامها وحياتها او مستقبلها الافضل.

وهنا ليس مهما ان تكون ماركسياً او تكون كما تحب، لكن لا تبرح المدى الانساني والعمل باتجاه المستقبل. ولهذا كانت جبهة التقدم في الخمسينات اوسع مما هي اليوم. لم يكن اليسار وحده، كان معه من يوالونه من الانسانيين والخيرين العاملين من اجل مستقبل افضل للبشرية ومنهم محامون وعلماء ومفكرون واساتذة اكاديميون وحركات انسانية مثل حركة السود والحركات النسوية وحماة البيئة وانصار السلم.. وهو هذا المدى الذي اعمل فيه واكتب امنياتي ضمنه، كل قصائدي في هذا الاتجاه، كل اعمدتي الصحفية، كل مقالاتي وكل ما ترجمت..

بعد هذه وفي اثنائها حاولت ان اوثق بعضا مهما من الاحداث المهمة في وطننا وانا في المدى الاوسع هذا لم اخرج عنه. كتبت عددا من المطولات الشعرية بهدف هذا التوثيق منها: "الحرب" وكانت بين الموت وسيدة الحب، الحياة. ونشرت القصيدة في ظرف كانت الدعوات فيه تحمّس الناس للحرب والقتال وانا ادعو لانتصار الحياة على الموت.

وكتبت "النشيد" فرحاً بالثورة وكتبت "تظهر مرة وتختفي" عن ضياع ثورة تموز. وكتبت "وردة النار في العصور" عن تأسيس الحزب وكتبت "سقوط آخر القلاع" عن تغيير النظام واحتلال بغداد. وكتبت ما لم يُنشر حتى الآن عن مجزرة قاعة الخلد بعنوان "فارغة تمضي العربات". في الاخيرة محنة اخلاقية ان تطلق النار على هذا العدد ويسهم بعضهم في اطلاق النار على رفاقهم. هكذا الخطأ يُنتج اخطاء وهذه تنتج سواها. وللأسف لم اكمل مطولة عن الشهيد الصدر، كنت فيها امام بطل تراجيدي، يلبس كفناً ابيض ويواجه الامبراطور. هو يذكرني بأبطال المسرح الاغريقي. خطأ، خطأ الاستهانة بما عندنا. "مقتلة في الكتدرائية" للعظيم إليوت، عن مقتل رئيس الاساقفة. قضية الصدر اهم واوسع من قضية رئيس الاساقفة. لماذا نستهين احداثنا ونماذج بطولاتنا؟ نحن انسانيون وتهمنا صور الانسانية وهي تضحي وان اختلفت الاتجاهات والالوان.

ليسمح لي الاخوة النقاد بأن اتحدث قليلاً في النقد الادبي، وليطمئنوا لستُ منافساً: لا ديوان لي يشبه ديواناً آخر. لكل عالمه. تنتهي التجربة فأنتقل الى هم جديد وان ظلت لغتي هي وظل مذاق اشعاري وظل اتجاه الافكار. وانا اسجل الاحداث الهامة في تاريخ العراق الحديث، اختلف الاسلوب واختلفت التقنيات باختلاف موضوعات الكتابة. في "سقوط آخر القلاع" وظفت السينما – الكاميرا. لقطات تتوالى من ايام السقوط. هذا يحمل ما سرق وآخر يركض بحاجة اخرى وسوق مركزي يحترق وينهب ومصارف تقتحم ودبابة جائمة في حديثة والقائد الآن محاصر في قصره يذهب ويجيء في قاعة نصف مضاءة، النجوم على اكتافه وحدها تلامع وجنود الاحتلال في الشوارع.. في النشيد حركة مجتمع وربما اول مرة تخاطب فيها قصيدة المديح مجموع الشعب ولا تخاطب فرداً كما اعتدنا في شعرنا العربي. وفي "وردة النار في العصور" وظفت النثر والتفعيلة والعمود وتحدثت ببساطة، غاية في البساطة، وحتى خاتمة القصيدة التي تصور ساحة ومشهد الاعدام، والفجر لم يكتمل بعد.

القصائد كما تعلمون مختلفات. القصيدة الغنائية البسيطة امتيازها بصفاء لحظتها الشعرية. القصيدة العامة، قصيدة الموضوع تزخر باصداء، باشارات لأكثر من اتجاه. والقصائد المركبة والمطولات، كل منها بانوراما احداث واجواء تتسع لأكثر من حال. هذه مبادئ اولى للشعر لا تخلط قصيدة بأخرى.

بعض القصائد تسير سيراً اعتيادياً، لكن البيت الاخير او المقطع الاخير، يحدث قفزة Jump، يفتح افقاً وتصبح فيها الكتابة شعراً!

"وردة النار في العصور" تبدو بسيطة هادئة وتتحرك بحذر. لكن العمل السري واضح فيها شخصية البطل الثائر واضحة. ومن النثر الى التفعيلة يجيء العمود شعبياً بسيطاً يخاطب الجماهير في ساحة الاعدام بما يألف الناس من شعر حينذاك. هكذا، كل شيء بحساب.

ولكن دعونا امام ما بدأنا فيه اول الكلام، البطل يتدلى في ساحة الاعدام ووردة النار تخطف فوق الجماهير وتدور حول القامة المتدلية، تضيئها وتتجه الى المستقبل، الى شهداء حرية آخرين .. هكذا لا عفوية في العمل. ثمة وعي في اختيار الشكل واللغة وحركة القصيدة وتقنيتها.

حين نكون تقدميين، لا بد من ان نكون انسانيين ولا بد من نؤمن بالمستقبل والعمل من اجل ان يكون افضل وان يكون الانسان، حيث يكون، عزيزاًُ ومحترماً ويعنينا! هو هذا جوهر عملنا كتابةً وسلوكاً ووعياً سياسياً، لا تشتتوا المُكتمل!

قبل ان انتهي، هذا هو مشهد ساحة الاعدام وقد احتشدت الجماهير والفجر لم يكتمل بعد، وهذه وردة النار تخطف على الحاضرين وتغيب:

اختفى البرقُ في البساتين

وتدحرج الرعد كراتٍ سوداً على قمم الاشجار

طير كبير سقط في الساحة

ووقف قبل الفجر رجال ونساء بعباءات

ووجه شاحبة ينتظرون

كأنْ فراغاً كبيراً، كأنْ فتحةَ كهف مخيفٍ

فمُ الجريمة الادرد

والقامة

الضوئية

بأوجها

تتقدم

وقد امتد الصمت كثيفاً، ثقيلاً على

الوجوه والبيوت واعمدة الكهرباء والأزقة

والدكاكين المغلقة بعدُ واللافتات

انطفأت اكبر الساحات. والامطار

سقطت كأن وقعت خطأ في مكان لا تدريه

الفتى الناحل الذي رأيناه قبل ثلاثين سنة

الذي جاب شوارع ونسج خلايا وكتب

بيانات وفض اشتباك مصائر

مصفدُ الآن

يقوده ثلاثة شرطة ودائرة من حرس

القيد على يديه يلمعُ يلمع لمعاناً شديداً

كأن ليُلفت الانظار للجريمة

كأن ليستنزف لمعانهُ وهو يغيب

كأن يضيء الطريق لدائرة الحبل الاسود التي

تقدمت ..

حشود من البشر المنقطعين الآن

انحنوا بامتنان

للتأسيس!

كوكب لا يدور

صامت ذلك الحشد حتى الافق

خطفتُ

فوقهم

واستدارت على قامة تتدلى هناك

وردة النار في العصور ..

عرض مقالات: