المثقف لاينفصل عن تاريخه، ولا عن سيرته واحلامه، وحين يجد نفسه في لحظة تاريخية حاسمة يتبدى ذلك التاريخ بوصفه القوة العميقة التي تُحفّز خياله، وتمنح ارادته فيضا من التعالي، وتُعطي لذاكرته سطوعا طالما يستعيده المثقف شاعرا كان أم روائيا في سياق تمثلاته في الواقع أو في الكتابة..

ياسين طه حافظ والحزب الشيوعي العراقي ثنائية التاريخ والذاكرة، وشغف الاحلام الأولى، حيث يكون الحزب هو الأفق والبيت والرمز، وحيث يجد الشاعر نفسه أمام غواية أنْ يكتب نفسه، أو نصه من خلال ما يُغذّي الكتابة بأسئلتها  الاولى، وهواجسها الغامرة، وأنْ يجد في القصيدة منذ(الوحش والذاكرة) خياره  في كتابة قصيدة الرؤيا، والقصيدة التي لاتنسى..

الحزب الشيوعي ليس حزبا عابرا في التاريخ، وأنّ علاقة الشاعر ياسين طه حافظ بالحب ظلت غمرة بالحياة، فهو الصديق والمؤمن برسالته، وبأهدافه، وبمشروعه الوطني، وهذا جعل الحزب ليس بعيدا عن يومياته، ولا عن ذاكرته، رغم مايحوطها من عوامل المحو والنسيان.

الحزب الشيوعي حزب ثقافي في جوهره، حزب البروليتاريا الثقافية، وهذه خاصية من الصعب جدا أنْ تكون في الأحزاب العراقية، وحتى علاقة الحزب بصنّاع الكتابة كانت محاولة لتدوين الاحلام العابرة، ولترميم ماتتركه اللغة والحياة من فراغات، أو يمارسه الطغاة من جرائم مفتوحة على المحو والغياب، إنه وجود، ومعنى، وفضاء رسالي ومعرفي، يؤمن بأنّ الثقافة هي جوهر الحرية، وأنها خيار، ومشروع لأنسنة الوعي واللغة، ولوضع الانسان في سياق مايؤمن به من توقٍ للحرية، ولأنْ تكون تلك  الحرية تعبيرا عن مسؤوليته وارادته..

كان ياسين طه حافظ يعيش هاجس الرؤيا، ويدرك أنّ القصيدة لحظة فارقة في الوعي، وهذا ما انعكس على خياراته، وعلى مواقفه، وعلى منظوره لوظيفة المثقف في الحياة الثقافية، وفي الحياة العامة، إذ تكون هذه الوظيفة هي خيار وطني، وجمالي، وأنّ تمثله للفكرة الماركسية للثقافة كانت الاساس الذي أدرك من خلاله أهمية الفلسفة والمعرفة في صياغة الوعي، وفي تأهيل المثقف لسلسلة من المواجهات الكبرى، تلك التي ينحاز فيها الشاعر الى خياراته الوطنية والانسانية، ويعمّق من خلالها مشروعه الثقافي بالوعي والعمق والفاعلية..

المثقف والثقافة والمجتمع.

في مجتمع مثل مجتمعنا يبدو الحديث عن المثقف والثقافة مجالا للكشف عن ماهو عميق في الحديث، وفي تعالقاته، فقد عاش التاريخ المعاصر بوصفه محنة، على مستوى مواجهة الاستبداد السياسي، أو على مستوى صناعة الخطاب الثقافي الفاعل والنقدي والمسؤول، مثلما عاش المثقف خياراته الثقافية وكأنها لعبة في الجحيم، فالسلطات المُستبِدة كانت تنظر للمثقف بريبة، وللثقافة وكأنها صناعة في الرعب، وهذا ما جعل عديد من مثقفينا يمارسون لعبة البحث عن الاقنعة والمجازات والاستعارات، وربما الهروب الى التاريخ ذاته بحثا عن خفايا وسرائر تصلح للاحتواءات الصوفية والسحرية، وهو ما فعله ياسين طه حافظ المشغول بالحلم الشعري، والواقف عند خط الحرائق،  فكانت القصيدة عنده مغامرة، وكان الأفق ملتبسا حيث (تتسع الرؤيا وتضيق العبارة) كما يقول النِفرّي، وحيث الانغمار بحثا عن التقنّع باللغة بوصفها الحمائي، ولممارسة طقوس الاستكناه في عوالمها، وشفراتها، حدّ أنّ رؤاه تبدو وكأنها تعرية، وتعال، وتعالق وحلول، والتي يدرك بعض خفاياها القارىء الحصيف..

الانحياز لفكرة المثقف الجمالي قد يكون خيارا وقائيا، مثلما أنّ ادراكه لرهانات ماهو انساني في الثقافة بات مسؤولية معرفية واخلاقية، فالقصيدة الجيدة هي القصيدة المائزة في معرفيتها، وفي جدّتها، وفي بنائها، وحتى في قدرتها على أنْ تحتفظ بكثير من المسكوت عنه، والغائب..

ومسؤولية المثقف في المشهد الثقافي ليست بعيدة عن وظيفة الشاعر، فهي مسؤوليته إزاء مجتمعه، وإزاء تاريخه، لأنّ هذا المثقف سيظل رهينا بمحنة وعيه، وبمحنة مايجري، وبفعاليته في صناعة الاسئلة، وأحسب أنّ ياسين طه حافظ  ظل دؤوبا على أنْ يمارس هذه الوظيفة الصعبة والشائكة، وسط عالم يتحول، ويحارب ويتغوّل فيه الاستبداد حدّ الرعب..

الشاعر ولعبة الاقنعة..

لا أدّعي أنّي اعرفه بالكامل، لكنّي قرأته بعمق، أتابع منجزه الشعري والترجمي، فأكتشف فيه هوية المثقف الرصين، والذي يدرك عمق مسؤولياته. كان يكتبُ بهدوء، وبلا استعراضات، أو حتى بلا نزعات (جيلية) اصطخبت كثيرا بالأدلجة الحادة الطباع. كان هادئا في الكتابة، وفي الحضور، لكنه مُختزِن لوعيٍ عالٍ، وارادة صلبة، حتى في ادارته لأهم مشروع ثقافي عراقي، حيث تسنّم مسؤولية تحرير مجلة (الثقافة الاجنبية) تلك التي قدّمت لنا خلال سني مسؤوليته عنها أكثر روائع الثقافات الانسانية تأثيرا في الوعي الأدبي، وفي توجهاته الحداثية.

كتابته الشعرية لم تفصل عن وعيه الثقافي، فالقصيدة هي مرآته، هي ذاته المجبولة على الدقة، وعلى مايتبدى فيها من غنى، وعمق، فكان يكتب القصيدة التي تشبهه، هادئة بصوتها الخفيض، لكنها محتدمة في اعماقها، تزدحم فيها الأقنعة الصوفية، وكأنها هي اقنعة الشاعر ذاته والذي يمارس عبرها رفضه واحتجاجه.

اقنعة الصوفي، والرائي هما الدالان على ما يختزنه الشاعر، وعلى شغفه بالحرية، وعلى نزوعه الى وعي ما يكتبه عبر تلك الاقنعة، وعبر مايُثيره من أسئلة، أو ما يُضيفه اليها من تجددات ظلت هي العلامة المهمة في تجربته الشعرية بشكلٍ خاص، ومن يقرأ كتاباته الشعرية الجديدة سيجد عمق التحولات العاصفة في تجربته، لكنها الحافظة لوعيه وتوازنه، لنظرته لمفاهيم التجديد الشعري..

ياسين طه حافظ هو آخر الخطباء كما قال عنه الشاعر فوزي كريم، وهذه التسمية هي تعبير معرفي وانطولوجي عن أهميته في سياق تحولات الشعرية العراقية والعربية، والتي جعلته الشاعر الذي لايركن التاريخ على الطاولة، ولا يرمي الذاكرة في سلة المهملات، بل يحملهما معه زوادة وعيه، ولرؤيا ولاستبصار ما يمكن ان تكونه القصيدة في الزمن الجديدة، حيث تمارس وظيفة الشهادة، ووظيفة من يستعيد صور البطولة التي تركها الراحلون الكبار في نفوس الناس الحالمين بالحرية والسلام..

عرض مقالات: