"كم اكره القرن العشرين - معلقة بلوشي" رواية جديدة للروائي عبدالكريم العبيدي، وهي الرواية الثالثة له بعد "حفر الباطن" و"الذباب والزمرد".

نستطيع ان نحدد مشتركات في الروايات الثلاث؛ اولها الحرب التي دمرت مدينة البصرة واستنزفت بناها المادية والبشرية وحتى الاجتماعية، وهذا الدمار ليس حصرا على البصرة، ولكنه بلاء ضرب اغلب مدن العراق. لكن البصرة التي وضعها حظها العاثر في ساحة المواجهة بين طرفي صراع دموي كان لها الحصة الاكبر، فقد استمر تساقط الصواريخ والقذائف بشكل يومي.

استطاعت الروايات الثلاث للعبيدي، تصوير ما جلبته تلك الحرب الرعناء وما سببته من خراب في جميع نواحي الحياة، البنيوية والبشرية والاجتماعية.  هذه الحرب التي لم يخرج اي من طرفيها منتصرا، وقد خسر طرفا الصراع اكثر مما ربحا.. انها لعنة الحرب التي ظلت تلاحق العراقيين لعقود بعد انتهائها وما زالت آثارها باقية! انها، وكما جاء في الرواية: "حفنة أعوام قاتمة، مليئة باسرار حياة عائلة بصرية بلوشية ضاعت جزافا، في غمرة تاريخ مفزع لمدينة جنوبية ساحرة، ظلت تغلي بذاكرتها المكتظة بالحزن طيلة عقود الخوف".

في روايته الأخيرة "كم اكره القرن العشرين" ورواية "الذباب والزمرد" يجهد العبيدي في تصوير الأجواء الجميلة والحميمة التي فقدتها البصرة، بسبب الحرب من خلال استرجاع ما كانت تعيش في هذه المدينة الجميلة من قوميات واثنيات مختلفة، وصور التعايش التي كانت قائمة فيما بين مكوناتها هذه، والعلاقات الإنسانية التي كانت تحكم هذه العلاقات. وكيف كانت البصرة قبلة للعراقيين وأبناء دول الخليج المجاورة. ومثلما تكلم في روايته "الذباب والزمرد" التي صدرت في العام 2011 عن الأقلية اليهودية التي هُجِرتْ من العراق بشكل عام، ومن البصرة بالذات، وما تركته عملية تهجيرهم على من عايشوا هؤلاء العراقيين الذين أخرجوا من ديارهم بملابسهم فقط، الذين بقي العراق في ذاكرتهم، والكثير منهم نقل حبه وتعلقه بالعراق الى أولاده واحفاده! نشهد في روايته الأخيرة تهميش فئة من العراقيين وهم البلوش وما كانت تعانيه، هذه الأقلية التي نزحت من ايران وسكنت العراق، وهي احدى القوميات التي تسكن بين باكستان وايران وافغانستان في اقليم بلوشستان. وكانوا قد عاشوا في العراق منذ مئات السنين.

 وهذا ما كتبه "مولو البلوشي" في معلقته في "شماريخ الدفتر الثاني": "كثيرا ما أذلني اليأس من مرارة التجوال، داخل أزقة غدت عزوفة عن تقبل إحساس يداهمني من خارج خوائها، شاخت البصرة يا "بالاجاني"، غادرت ماضيها رسميا بلا رجعة وتحولت نهاراتها الى ترادفات مبهمة، قبيحة الوجوه، وفاقدة للوضوح أيضا. لم يعد فيها ما يستوجب التمعن او يستحق أي رثاء. لقد بدا الامر وكأن بصرة قديمة تنزاح، مفسحة لمعاول الخراب رسم ركام دورة جديدة من ويلات أواخر القرن العشرين".

ثيمة الرواية

الرواية تتكلم عن شخص هارب من الخدمة العسكرية، مثل آلاف العراقيين الذين عاشوا اثناء سنوات الحرب العراقية الايرانية، التي كانت تعني آنذاك الموت او التعويق او الفقدان، في سوح المعارك التي كانت رحاها تدور بشكل يومي ومجنون، في جميع  مناطق المواجهة التي تمتد على طول الحدود العراقية الإيرانية التي تبلغ اكثر من 1458 كلم. ومطاردة الأجهزة الأمنية والحزبية لهؤلاء الهاربين. ومن ضمنهم شخص يسمى مولود البلوشي! الذي يبتليه جاره "صارم" وينغص عليه حياته وحياة عائلته. وبسبب مصادفة غريبة يلتقي هذا البلوشي بصديق له منذ الدراسة، اصبح عند التقائه به ضابطا في احد الأجهزة الأمنية الكثيرة والمتعددة، التي كانت تُحصي على افراد الشعب العراقي انفاسهم، فيخبر البلوشي صديقه الضابط عن ما يتعرض له هو وعائلته، بسبب هذا الـجار الحاقد عليه، الذي اوصله في أحدى المرات الى ساحة الاعدام، لكن مصادفة غريبة تنقذه من الموت، عندما يتم شموله بعفو تصدره الجهات الأمنية في آخر لحظة. فيعمل هذا الضابط الصديق على نقل هذا الجار، الذي هو في دائرة الانضباط العسكري، الى احد الوحدات المتقدمة في الجبهة، ويصادف ان يحدث هجوم كبير في احدى جبهات القتال، يتسبب في قتل المئات من الجنود العراقيين، فيقتل "صارم" في هذه المعركة. ومن الصدف ان هذا البلوشي يتصادف وجوده في هذه المعركة، فيجد جثة صارم بين جثث القتلى وهي مشوهة بسبب الإصابة وبقائها لفترة طويلة في ارض المعركة، فيستبدل قرص الهوية الذي يحمله القتيل بقرص هويته، ويلبسه ساعته ويضع محفظته وكل ما يتعلق به في جيب القتيل، ليستدل الذي سينقل الجثة الى مقرات الوحدات الخلفية على ان القتيل هو "مولو البلوشي" وليس "صارم" الانضباط! ويظل "مولو" مختفيا عن الأنظار حتى قيام العراق باحتلال الكويت، وعندما تتهيئ له فرصة العودة الى الجيش ومرابطته على الحدود العراقية السعودية، يستطيع بمساعدة البعض تسليم نفسه الى الصليب الأحمر الدولي، ومن ثم يحصل على طلب اللجوء في هولندا.

الرواية التي هي عبارة عن معلقة، مدونة كتبها مولو البلوشي عن حياته التي عاشها اثناء الحرب العراقية الايرانية، التي قضاها هاربا من الجيش، وقد استطاع ان يوصل هذه المعلقة التي تتألف من ثلاثة دفاتر كانت تتنقل معه طيلة فترة اختفائه، الى سكرتيرة اخته الدكتورة "ميا" في بغداد قبل رحيله الى الكويت عند احتلالها من قبل الجيش العراقي ليلتحق بوحدة عسكرية في الكويت، ومن ثم ينجح في الوصول الى هولندا لاجئا.

الميتاسردية في الرواية

تعتمد رواية "كم اكره القرن العشرين – معلقة البلوشي" على وصية مولو التي وجدتها أخته ميا في الكيس الاسود الذي تركه شخص مشرد فوق منضدة سكرتيرتها، ومن ثم عاد وانتظرها حتى خروجها من العيادة ليتأكد من أنها سلمتها الى الدكتورة مثلما كان مكتوب في داخل الكيس؛ "يسلم هذا الكيس الى الدكتورة ميا"! وقد اوصى فيها مولو لـ ميا ان تسلم محتويات هذا الكيس الذي حوى؛ "ثلاثة دفاتر  شبه بالية، من فئة مائتي ورقة، لم يبق على اغلفتها الامامية والاخيرة لون ولا زخرفة ولا نقش" الى "الملك الظليل".

 والواضح أن هذه الرواية اعتمدت في سردها على الميتاسردية، الذي يعتمد على فكرة التداخل بين النصوص، لتحقيق الوظيفة الميتالغوية، التي يلغى فيها التوالي التعاقبي، وقد عمد الروائي العبيدي الى الخروج على الخطية التتابعية لتنامي الحكي والاحداث في البنية السردية، من خلال رؤيته للبنيات المتداخلة والمتوازية في النص الروائي، وكذلك عمد الى الرواة المتعددين، وتستوجب الكتابة الميتاسردية وعياً قرائياً واسلوبيا لمعاينة النص، مثلما يستوجب حفرا في مستوياته البنائية وتراكب منظوماتها الاسلوبية والثيمية، والكشف الوظيفي والتوصيفي لهذا المتخيل السردي. وهذا ما نشاهده جليا في تقديم وتأخير السرد في الرواية من خلال تقطيع الروي، والغاء التتابع التعاقبي، السياقي في حدثين مختلفي الزمن؛ الدكتورة ميا وهي تحاول ان تعرف ما الذي يحويه الكيس الاسود: "لا مناص اذن، لابد من فتح الكيس الاسود. التعرف على لغزه سيخلصني من كل هذه التهيؤات والوساوس، قرار حكيم، بدا حازما بنظر (ميا) الساعة الان تجاوزت منتصف الليل". بينما المقطع الذي يليه يتكلم الراوي العليم، عن الجدة "سليكا" وهي تبحث في اغراض الشهيد مولوي.. "بدأت العجوز تصنع صغار الأوهام. وهمٌ اثر وهم، ثم تشرع بترويضها الواحد تلو الآخر. وهي لا تستطيع حياة البرزخ التي سيعيشها "مولو" في بيت الدود".

 ويتكرر هذا التقطيع  لأكثر من مرة وتتناوب هذه المقاطع في تصوير حالة الجدة، وهي تفتش في اغراض مولوي، الذي جلبها العسكري مع الجثة، وسلمها لمركز الشرطة ومن ثم سُلمتْ للعائلة، وبين هواجس الدكتورة ميا وهي تفتح الكيس الاسود وتقرأ الدفاتر الثلاث التي كتبها مولو عن حياته السابقة. وهذين الحدثين يختلف زمن حدوثهما. فالاول في زمن الحرب العراقية الايرانية بينما الحدث الثاني قبل الهجوم الذي شنته قوى التحالف الدولي في عملية تحرير الكويت.

وهناك تعدد لسراد الرواية  فبالاضافة الى الراوي العليم هناك روي للدكتورة: اطلقت الدكتورة حسرة حارقة ثم قالت: "لم يستطع مولو تدبر حياته الهولندية لوحده. لا أعني المعيشة بل الروح المسلوبة من موطنها. كثيرا ما كان يردد باسى مرير: التبصر عبادة يا "بلا" ثم يبتسم ويجتر جملا من حوارات باطنية مع الشبح الذي كان يزوره في تهيؤاته".

وروي لزوج الدكتورة ميا في صفحات أخرى.. "امسكتُ السماعة وقربتها من أذني فافزعني صوت رجل غريب ينسل عبر الهاتف ويسألني: هل اغمى عليكِ؟ ردَّي علي. سألته من أنت؟ فعاد وسألني هذه المرة: من حضرتك؟ أريد ان اكلم ميا لو سمحت!".. كان كل شيء يمكن ان اتخيله يا ضيفي العزيز الا قصة ذلك الفاصل الاحمر الذي عصف بنا في تلك الليلة المدوية".

وأخيرا يعمد الروائي الى كسر الايهام السردي: "سلمتُ  للعائلة مخطوطة الرواية مطبوعة ومرفقة بحقيبة صغيرة تحتوي على الكيس الملغوم الذي حدثتني عنه، مع رزمة اوراق مليئة بهذيانات واستذكارات ووقائع كتبها شقيقها في مستشفى "انطوني فات ليفن هوك". قلت للدكتورة استجاب الله لدعائكِ، ألهمني الصبر واعانني على فك طلاسم الدفاتر والأوراق. ها هي الدفاتر تنهي دورة هربها".