ما أعنيه بالسلوك الثقافي هو التعامل مع الأفكار والأشياء والظواهر الاجتماعية التي تشكل حياتنا اليومية بطريقة متدرجة للوعي بها،  فليس كل ما هو واقعي مرفوض ولا كله مقبولا، المشكلة هي أن نظرتنا للواقع بحاجة إلى تحديد،  ماذا نريد من هذا الواقع؟ وكيف نغيره؟ مثل هذا الوضوح نطلق عليه "السلوك الثقافي".

 عندما نعيش في واقع غير منسجم وحياتنا، نرفضه، خاصة إذا فرض علينا ممارسات ضد إنسانيتنا، عندئذ لابد من أن نتخذ منه موقفا نقديا لتغييره، هذا الموقف يعبر عنه بالأيديولوجيا المضادة، لأن ما ينتجه الواقع من مظاهر سلبية ستكون مغايرة للفكر الإنساني السوي، ومنها على سبيل المثال، ما يفرضه الواقع بفعل الأيديولوجيا المهيمنة، من أوامر تقيّد حرية التعبير وتؤطر حياتنا اليومية بعلاقات محددة مع الآخر، وتضع أسيجة من  المفاهيم  تمنعنا من التفكير  الحر، مفاهيم تعبر عن ايديولوجية انتجت في عصور قديمة، ومازال يعمل بها، لأنها ترتبط بالسلطة المهيمنة  التي تحد من حرية الفرد وتضعه في خانة ضيقة من الحياة، أو تنظر إليه ككائن مذنب، قاصر، ومتهم، وعليه أن يكفّر عن ذنوب لم يقترفها، كي يكون منسجما مع الدين والطبيعة. مثل هذه الوقائع نجدها في واقعنا اليومي كشكل من أشكال  اخفاء الحقيقة، واثبات هيمنة التفكير الغيبي بإيديولوجيا السلطة المتحكمة.

لاشك أن مثل هذه الافكار  جزء من الواقع، ولكن الحياة، والطبيعة، والثقافة، والممارسة الاجتماعية، والتطور العلمي، وتجديد قدرات الإنسان بانفتاحه على العالم، وتقنياته وفلسفاتها وعلومها، فرضت نوعًا جديدًا من التفكير الذي يقوض التفكير السابق، ويضع بديلا له، ومن ثم يكشف عن زيف الأيديولوجيا التي تسنده. إلا أن هذا التفكير الجديد سيتخذ سمة أيديولوجية أخرى،  وعندئذ سيحدث الصدام بين القوى الصيانية التي تريد ابقاء الإنسان مقيدًا إلى ثوابت العبودية القديمة، وبين أن يمتلك  حريته في القول والنقد وطرح البديل، وبناء المستقبل، وتطوير العلاقة مع الآخر. ونسمي حالتي: القبول والرفض “بالسلوك الثقافي” الذي يؤسس لحالة التناقض في فهم الواقع، ولكن هذا السلوك الثقافي الذي  يطرح رؤى مناقضة لما هو في الواقع،  قد يكتفي  بتأسيس منظومة للسلوك الثقافي تسمح بنقد هذه الثوابت دون المساس بالقوى الاجتماعية التي تؤمن بها، بمعنى ثمة منهج للتغيير ولكنه غير ثوري، نحن لا نتكلم عن رؤى متخيلة وطوباوية ومفترضة للتغيير، بل عن رؤى ممكنة، ومنها الرؤى المرتبطة بالنضال والعمل والثورة الناعمة،  اي التعامل ثقافيا وبمرونة مع تلك الثوابت بحيث تخضعها الممارسة الاجتماعية للمناقشة والنقد والسؤال الفلسفي، عندئذ سيجد “السلوك الثقافي” طريقة مرنة  لفهم ما يجري، طريقة تستبطن حداثة التفكير الفلسفي الممكن، وقد لا يتحقق ما يراد منه ضمن الظروف الموضوعية الآنية، لصعوبة قبول مثل هذا الطرح من المتشددين، ولكنه سيكون فاعلا في المستقبل، وقد اثبتت تجاربنا التقدمية من أن الكثير من الأفكار حول الحرية والديمقراطية والمستقبل، والدولة، والسياسة، والمجتمع المدني، كانت مرفوضة قبل ثلاثين سنة، في حين أصبحت اليوم جزءًا من تفكير الفئات الرافضة لها.  ما نصبو إليه، - ونحن نعرف أن أية فكرة طوباوية لا تبني خيمتها على وقائع معاشة ستتحول هي الأخرى إلى صيانية متحكمة بالتفكير الإنساني. هو  إنتاج أفكار غير متطابقة مع الواقع المعيش، أفكار رافضة للتقييد، ولكننا نطرحها بأسلوبية الحوار والنقد.

عرض مقالات: