وصلتُ الى البيت قبل انتصاف الليل. كنت مرهقا جدا. وكانت درجة الحرارة داخل ظلمة البيت تقارب الخمسين مئوي. صاحب المولدة أخبرني أمس أن المولدة عاطلة ويحتاج اصلاحها ليومين على الأقل.

- الى "نومة السطح" اذن.

تمددتُ على الفراش ومسكت بمهفة وظللت أغمض عيني وأفتحهما طمعا بغفوة.

زحفتْ نجوم الثريا نحوي، تسبقها هالات البريق الفتاكة، فغرقتُ طوعا. شاهدتُ رجالا يشدون على خصورهم "الظلوف". تهتز أجسادهم النحيلة، فتغدو موسيقى "الظلوف" سيمفونية لوحدها، تتماوج أنغامها على ايقاع صوت "الطنبورة والصفائح والطبول"، فيرقص شبانٌ نحيفو الأجساد، يرتدون ثيابا بيضاء فضفاضة، ويلفون رؤوسهم بكوفيات بيضاء، وعلى أكتافهم عباءات بيضاء أيضا. انها رقصة "النوبان" المُبهرة، تؤديها "الجانكا"، الفرقة العجيبة التي هربتُ إليها طوعا، حالما هزَّت جسدي رعدةٌ من غوايتها، قُلْ جنوح مشوَّش ساحر، جرفته الراقصات السمراوات برشاقة أجسادهن، وعبق عطرهن الممزوج بالبخور، وأنغام "الجيكانكا" العذبة، وموسيقى "الباتو" التي حفَّزتهن على الرقص.

انغمرت برقصة "الهيوه"، درتُ برأسي مع الراقصين. حلقة النسوة الراقصات اتسعت، غرقتُ في سحر الدوران، توسطتْ الحلقة مجموعة أخرى من الراقصات، صنعن دائرة أخرى وأخرى. تصاعدت نغمتا "الصرناويوالباتو" من خلل ايقاعات رشيقة، ثم صدحت في تيارات أغاني الهيوه:"لا اله الا الله يا مياسة.. اسمع أنين عبيدي فوق الغرفة.. يمه عشقني مولد وشق ثوبة".

 تصاعدت وتائر ميزان الإيقاعات المركب. الإيقاعات تداخلت برغوة عجيبة، ثنائية وسداسية، ثنائية وسداسية. ثم صنع الراقصون دائرة كبرى. تسللت الراقصات الساحرات، شكَّلن دائرة داخلية. دارت الحلقتان في حركات إيقاعية التوائية مدهشة. امتدت الأرجل اليسرى مع الأيادي اليمنى، وانحنت الأجساد إلى الأمام، راحت تتلوى كأفاع مجنونة. تداخلت الحلقتان، ثم تسلل إلى داخلها راقص وراقصة، تماوج جسداهما في "صولة" مثيرة، لوحة جذّابة من حركات الأيادي والسيقان، وسط دخان بخور "الجاوي" وعطر دهن "العود"، والأنغام الصادحة، والمتفرجين الذين أطلقوا عنان رغبتهم للرقص.. ياه... تلك مسافة كافية للفرار في "مكايد" تُعْرَف رقصاتها من لون "الشنيّر"، أعلامها المرفرفة منذ الفجر، ومن أسمائها الغريبة:"ساحة باريس وسعدية الدلاكة وسنجان والمعري وياروت و....

استيقظت على دوي انفجار هائل هز جدران المنزل وبدا كافيا لإعادتي الى ليلة صيف عراقية!