ثمة جانب خفي أو مجهول في مسيرة الروائي القدير نجيب محفوظ "1911- 2006" يتعلق بكتابته العديد من النصوص المسرحية منذ نكسة حزيران 1967 وحتى عام 1979 حينما اختتم آخر نصوصه المسرحية بعنوان "الجبل". وعلى مدار هذه السنوات المحدودة من ابداعه الطويل، كان محفوظ ينشر هذه النصوص في مجلتي "الهلال/ المسرح" المصريتين على فترات متباعدة نسبياً، وربما على استحياء، لوجود كتاب او مؤلفين مسرحيين مصريين قد سبقوه في هذا الفن امثال: توفيق الحكيم، عبد الرحمن الشرقاوي، نعمان عاشور، محمود دياب، علي سالم، سعد الدين وهبة، رشاد رشدي، يوسف ادريس، شوقي خميس، وآخرين من الذين كانوا في أوج مجدهم وتألقهم في منصات المسرح المصري.
هل هناك صلة لهذا الاستحياء في مزاحمة عمالقة كتاب المسرح المصري، بما هو عليه من استحياء او خجل آخر حينما طوى هذا المبدع الروائي الاثير الكثير من قصائده الشبابية ومجموعة سيناريوهاته السينمائية ومقالاته السياسية واحجم عن نشرها قانعا او مكتفيا بعالمه السردي في الرواية والقصة؟ ام انه وجد في اهتماماته الابداعية المتشعبة حالة لا تستقيم مع عقله وقلبه ازاء تفرده السردي بين اوساط الادب في العالم، خصوصا في فن الرواية؟
احسب، ان نقاد المسرح في الوطن العربي وما اكثرهم لم ينتبهوا الى نصوص نجيب محفوظ المسرحية، ولم يألوا جهداً في البحث عن مصادر نشرها الاولى في المجلتين المذكورتين وقتذاك، لأن من شواغل هؤلاء النقاد البحث عن عروض "المنصة" البصرية، قبل انتباههم الى نصوص "الورقة" الطباعية التي تحفل بها وسائل الاعلام المقروءة في الصحف والمجلات. وهذا من خطل المخرجين المسرحيين ايضا في مصر وبقية الوطن العربي، ان لم يكن من اخطائهم المريرة في عدم وقوفهم حول ما انجزه نجيب محفوظ من ادب مسرحي في مرحلة تعد من اخطر ما عاشه العالم العربي بعد اعقاب النكسة المشهورة.
ولعل الاغرب من كل ذلك، ان الورقة الاحتفالية التي قدمت من سدنة جائزة نوبل عام 1988 في ستوكهولم، لم تتضمن في فقراتها لمحة او اشارة الى منجز محفوظ الابداعي الطويل في الشعر والمسرح والسينما والمقالة، كما فعلت مع بعض اساطين هذه الجائزة من السابقين واللاحقين واكتفت بالفقرة الموجزة التالية:".. ما حققت الرواية لنجيب محفوظ من صيت وذيوع، الا بقدر ما حقق هو من خلالها الريادة والتفرد، إذ ارتكز عبر نتاجه الروائي الضخم على ملامح الشخصية المصرية، مؤصلاً لرواية عربية خالصة، انطلقت من هوية شعبية، استلهمت عنصر المكان/ الحارة المصرية وتفاعله مع التاريخ بتراتب احداثه وتواترها عبر الزمان".
وحول الاقتراب اكثر من عوالم نجيب محفوظ المسرحية، يذكرنا الكاتب المصري محمود كحيلة في احد اعداد مجلة "العربي" الكويتية في حزيران 2015 بأحد تصريحات نجيب محفوظ في مجلة "المسرح" المصرية عام 1979 وهو يبرر علاقته القديمة بفن المسرح، وكمشاهد عاصر اقطاب الفنانين مثل نجيب الريحاني "1889- 1949" وعلي الكسار "1887- 1957" بقوله: "حضرت بصحبة ابي بعض تمثيليات الريحاني والكسار، وبدءاً من عام 1925 عرفت الطريق الى روض الفرج، وكان حافلا بمقلدي هذين العلمين، فشاهدت كثيرا من المسرحيات التي كانوا يقدمونها في ازمنة سابقة اثناء الحرب العظمى "حرب 1914" وبعد ذلك عرفنا طريقنا في المسرح المصري في الثلاثينات وما قبلها قليلا، شاهدنا يوسف وهبي وفاطمة رشدي والكسار وعزيز عيد".
ويبدو ان ممارسة محفوظ في الكتابة المسرحية المعلنة وقتذاك التي جاءت بعد اعقاب النكسة تحديدا او ما تسمى لدى حكومة اسرائيل بـ "حرب الايام الستة" هي رد فعل نفسي مرير لخسارة جيش مصر والجيوش العربية المشاركة معاً، او لخيبة الامل التي مُنِيَ بها ابناء الضاد جميعا ازاء صدمة النكسة وتداعياتها، خصوصا وان نجيب محفوظ وجيله من المفكرين والمبدعين قد ادركوا جميعا بوعيهم وثقافتهم ان المسرح هو المنبر الذي يستوعب صدمة هذا الحدث، فلا قصيدة نزار قباني "اصبح عندي الآن بندقية" بصوت ام كلثوم ولا ديوانه المعروف في ذلك الزمن "هوامش من دفاتر النكسة" يشفي غليل او يضمد جراح الروح، وانما المسرح كفن حواري بين مرسل "مؤلف" ومتلقي "متفرج" كفن يحتمل المكاشفة والتعرية والخطاب المعلن، بعيدا عن الرمز والتورية والمرسل والمجاز واصوات العليم واللا عليم كما يفعل الشعر والسرد.
ما انتجه نجيب محفوظ في ذلك الزمن قد يعد بسيطا ومحدودا في عوالم المسرح، او لا يعدو عن سبع مسرحيات من دون زيادة او نقصان، لا تعرف عنه او عنها شيئاً. ولكنه محفوظ يلقي بك في قلب احداثها ومعتركاتها بسهولة، من دون ان يترك لك اثراً نفسياً او جمالياً او دلالياً فيها. وكان بارعاً في التخفي عنها، ومتبطراً في الزهد عنها. طالما انها لم تمس وتراً او فعلاً في المشهد المسرحي العربي لأسباب نذكرها فيما بعد.
انه موقف شديد الاهمية ويفرض العديد من التساؤلات فقد توارى نجيب محفوظ بهذه المسرحيات السبع ضمن ثلاث مجاميع قصصية معروفة من نتاجه السردي المعروف ضمن رؤيته الاستشرافية في عالم ابداعه الطويل، حينما اخفى هذه المسرحيات السبع في ثلاث مجاميع قصصية معروفة له ومنها: مجاميع قصصية "تحت المظلة" 1969، "الجريمة" 1973، "الشيطان يعظ" 1979.
وينبغي التذكير بان لمحفوظ مجموعتين قصصيتين سابقتين لهذه المجموعات الثلاث هما: "دنيا الله/ 1961، وخمارة القط الاسود/ 1964" على حسب طبعاتهما المتعددة، من دون ان يتوافر فيهما اي نص مسرحي مبكر، الامر الذي يعزز قناعتنا الشخصية بأن احداث النكسة العربية الشهيرة كانت المنطلق الاول لكتابة نصوصه السبعة المذكورة على وفق جرعات متعددة من السنين، قد تحتمل صبوات النفس او البكاء على زمن مضى وانقضى عظة يتعظ بها كل من طالع اهوالها المؤلمة.
ولو شئنا الوقوف على محتويات المجاميع القصصية الثلاثة المذكورة وما تتضمن من مسرحيات، لوجدنا ان الاولى تتضمن خمسة نصوص مسرحية، لعل اهمها درامياً ثلاثة منها حملت عناوين "التركة، يميت ويحيي، النجاة" التي اصطفاها المخرج المصري الراحل احمد عبد الحليم ضمن عرض مسرحي واحد تحت عنوان ذات المجموعة القصصية "تحت المظلة". وقد جاء هذا العرض – كما تواترت اخباره من خلال ما كتب عنه في مجلة "المسرح" المصرية- رمزيا بأحداثه وشخصياته التجريدية التي تصل حد العبث واللامعقول، ومنها الشيخ الصالح صاحب الكرامات وابنه الضال الفاسد كصورة من صور عالم تقليدي اعلنت مؤسسات الثورة المصرية ضرورة ابادته وقتذاك، او ذلك الفتى الذي اهينت كرامته اما فتاته بوجود عملاق غير منصف في استعادة حق الفتى المغبون. او ذلك الرجل الذي يتستر على امرأة مجهولة تقتحم شقته على حين غرة، ولكنه يتستر عليها حتى النهاية، حتى وان داهمته الشرطة مع صديقه الوفي ضمن استمرارية عبثية تذكرنا بمسرحيات يوجين يونسكو غير العقلانية بظروفها وملابساتها التي تحتمل التجريح او الاساءة من دون فهم لما يحدث.
في حين تضمنت المجموعة القصصية الثانية مسرحية واحدة بعنوان "الجريمة" من ذات الفصل الواحد، وبطلاها شابان يدعيان بـ الابيض والاحمر حسب قمصانهما اللذين تجلببا بهما، ضمن مناخ تعبيري معلن او منولوج مشترك يتعلق بعروس قادمة، وكأن هذا المنولوج يجري بين المرء ونفسه او بين الذات والقرين.
اما المجموعة القصصية الثالثة لنجيب محفوظ "الشيطان يعظ" التي تضمنت 12 قصة قصيرة فتحتوي على نص مسرحي آخر هو "الجبل". وفي هذا النص ثمة جنوح الى التراث الاسلامي الاموي ضمن مفهوم "العدالة" الاجتماعية، لجأ اليه محفوظ في آخر كتاباته المسرحية، وكأنها من تلبيس ابليس الذي اراد ان يحول ديننا السهل البسيط الى دين كهنوتي معقد.
وبقدر ما يتعلق الامر بنا، فقد اثارت هذه المسرحيات السبعة جملة من الملاحظات، منها:
اولاً: تفرد محفوظ بكتابة حواريات من طراز خاص، كتابة ذات لغة نثرية خالصة، فهي لغة او حوارات صريحة مباشرة، جافة وموجزة، ليس لها ايقاع درامي او ركحي "تمثيلي" سوى ايقاعها النثري.
ثانياً: بعض شخصيات هذه المسرحيات بوهيمية يكتنفها الغموض حتى في مسارها الواقعي المألوف الذي يجنح نحو العبث واللامعقول، انطلاقاً مما هو شائع وقتذاك من تجليات مسرح بيكيت ويونسكو وآربال، ومن سار على خطاهم.
ثالثاً: البعض الآخر من شخصيات محفوظ ذات طابع عرفاني واشراقي، يذكرنا بتجليات المتصوفة او اصحاب الكرامات في روايتيه الاثيرتين "اولاد حارتنا" و" قلب الليل"، وهي شخصيات قد تنتمي الى الخطاب السردي اكثر مما تنتمي الى خطاب الدراما او فعل المنصة المسرحية.
رابعاً: غياب ملموس لوحدتي "الزمان/ المكان" الارسطيتين بوصفهما عنصرين مأساويين والاكتفاء بوحدة "الموضوع"، التي تفصح عن حوارات ذهنية ذات طابع فلسفي تجريدي مناكف لطبيعة او اشتغال منصات المسرح.
خامساً: تساؤلات كونية يطرحها نجيب محفوظ في مضامين هذه المسرحيات المتعددة، من دون ان تستشرف التصادم منذ البداية وتستقرئ واقع "الشر" وارادته الحديدية التي ستطيح بالبطل في النهاية.
لعل هذه الملاحظات وغيرها الكثير، هي اهم ما يواجهنا في افق قراءة مسرحيات نجيب محفوظ، تماما كما نقرأ لبيرنارد شو وإليوت وتوفيق الحكيم وهنري ميشو وآخرين في المسرح "الذهني".