بحسب روجيه غارودي فان "ان مهمة العمل الفني ليست اعادة نقل العالم بل التعبير عن آمال الانسان"، والسرد الروائي بوصفه وثيقة تاريخية تتكئ عليها وجهات النظر الجمالية لمتغيرات الواقع من خلال تفاعلها مع الاحداث وتوتراتها فسيكون الواقع بتناقضاته وموجوداته فاعلا في السرد من خلال استلهام المنتج "السارد" له ورصد تحولاته وتشكلاته مع تركيز على الهم الاجتماعي كمحرك مؤثر داخل البنية السردية التي تتكئ على محمولات لفظية خالقة لمشاهدها الحسية المحملة بنداء خفي وتحت تساؤل حياتي فلسفي يقترب بتقنياته من الحكائية وتوظيف ضمير المخاطب الذي غالبا ما يبدأ بفعل حركي قائم على انعكاس الحالة النفسية للذات وتدفق وجداني يعبر عن لمحة فكرية تكشف عن تجربة تختزن في داخلها طاقة ذاكراتية وتشكل حضورا في دائرة الوعي.
وباستحضار النص السردي "كم أكره القرن العشرين.. معلقة بلوشي" بعوالمه المشهدية التي أفرزتها ذاكرة السارد عبدالكريم العبيدي ونسجتها أنامله، منطلقة من اتفاقية هاولير والصندوق الأسود الاول والثاني، مرورا بشماريخ ـ الدفتر الاول: سياحة في العدم وشماريخ ـ الدفتر الثاني: كاسيت "سلي ريبو".. كاسيت "سلي ريبو"، A وكاسيت "سلي ريبو" B وانتهاء بشماريخ ـ الدفتر الثالث: سيمفونية الاصبع الوسطى ومتناذرة مويا، وأخيرا وصية مولو.. والتي تبدأ باستهلال سردي "رنين تلفون ورسالة" موجهتان للسارد العليم الذي يمضي سنة مربكة مع رزمة ورقية ودفاتر مليئة بهذيانات واستذكارات ووقائع لصديقه "مولود" بؤرة السرد ومرتكزه الذي وافاه الاجل في مدينة روتردام الهولندية.. واودعها سرا عند "ميا" الطبيبة المهاجرة هناك.. والتي تأتي بها الى "اربيلو" وتسلمها للراوي العليم فيدونها ببنية معمارية قائمة على تلك الخطاطات وينتج سردا تغلب عليه الصنعة الحداثية التي تجرنا الى تقنيات الميتا سرد، وتعدد الرواة وهي تتابع تحولات عائلة بصرية بلوشية وما حصل لها جراء الحرب والتهجير في ثمانينيات القرن العشرين ابان الحرب العراقية الايرانية، التي جاءت امتدادا للحرب العالمية الاولى والثانية وحرب 48..
وهكذا تكشف الرواية عن تبعات الحرب وويلاتها فقد اضطرت حتى البصرة الى مغادرة ماضيها وتحولت الى نهارات مبهمة.. وصارت الهوية الوطنية عائمة ما بين الوطن والمهجر.. "شاخت البصرة يا بالاجاتي.. لقد بدأ الامر وكأن البصرة قديمة تنزاح مفسحة لمعاول الخراب رسم ركام دورة جديدة من ويلات اواخر القرن العشرين...". ومن هنا انطلق العنوان الكاره للقرن العشرين، كونه ينبثق من ذاكرة منفردة رغم تعدد الحكي، فضلا عن اعتماده على رؤى اسلوبية وتقنيات فنية مع اتكاء على شخصيات وأمكنة محملة بموروثها التاريخي.
"سرت في اوصالي رجفة حالما رفع القزم رأسه وسدد نحوي عينين زرقاوتين.. بدا شاحب الوجه كأنه اراد ان يقول لي: "أنا جاهز لأهربك.. ثم بدأ يحدثني بصوت مبحوح يزداد خفوتا وهو يتمرغ بزرقة البحر التي أمست تلاعبها الاضواء وتمنحها سحرا مبهرا.. أمرني باشارة مهذبة من كفه ان اقف بكامل قامتي فوقفت للحظة مشرئبا.. نادرا ما اقف هكذا يا "بالاجاني".. أنا أحدب مقوس الظهر من فرط الذل.. ولكن الدهشة العارمة جلبت لعينيّ المبهورتين هواء البحر البارد.. هواءً رطبا لاذع البرودة جعلهما تدمعان فجأة.. بينما امتلأ قلبي عزما وانقطعت صلتي بسوء الطالع الذي لازمني.. وجدتني محوطا بأسئلة لا تحصى قبالة عشرات القوارب والسفن والمهيلات والدوب والزوارق الطافية.. تفرست في وجه شريكي قليلا وحاولت ان اخفي تثاؤبي.. قلت له بحزم: سأتبعك بكل تأكيد، ثم أغمضت عينيّ وانغمرت في هدهدات البحر وهدير صفارات المراكب وسحر دوامات المياه".
فالنص يعانق المكان بكل موجوداته باعتماد بنية الرؤية لاختراق عوالمه من خلال الجمع ما بين واقعية المشهد وغرائبية الحدث بحكم تشبع الواقع بما هو غريب وعجائبي..
والسارد يتجاوز المألوف لخلق نص ينفتح على الاشكال التعبيرية والتقانات الفنية والاسلوبية كالاسترجاع والتذكر والاستباق والتنقيط والتقطيع الكلمي والمشهدية السيمية والتشكيلية من خلال رؤية بصرية في صناعة الاثر الجمالي.. اضافة الى اعتماد تسجيلية اسلوبية تعتمد الرؤية التي لا تغادر معطيات عالمها الواقعي، ابتداء من العنوان النص الموازي والايقونة التي تشير الى مكون زماني رامز يشكل وسيلة فنية لتحقيق غايات موضوعية وجمالية ونفسية تقوم على رؤيتين: أولهما الرؤية الاجتماعية وثانيهما الرؤية الانسانية من خلال التركيز على الحدث والمؤشرات الزمنية والافضية "المغلقة والمفتوحة" والشخوص وفعلها وتفاعلها مع بعضها والواقع بتوظيف تقنية الحوار بشقيه: الموضوعي "الخارجي" والذي يعد من أبرز العناصر التعبيرية والتصويرية حيث يغيب فيه الراوي العليم ويتنحى جانبا تاركا تصاعد النص الحدثي بشخوصه.
هناك الحوار الذاتي "الداخلي"، الصيغة التوصيلية بين الذات بوصفها كينونة نفسية والذهن بوصفه كينونة منتجة للمعرفة وخازنة لها والذي يهدف الى الكشف عن ابعاد الشخصية سوسيولوجيا وسايكولوجيا.. لنلاحظ هذا: "انساقت هيأة المشرد مجددا الى ذاكرة الطبيبة فانقبضت نفسها ثانية واحمر وجهها... شعرت بذات الاعراض الغريبة التي داهمتها لحظة رؤيته قبل أكثر من ثلاث ساعات فسارعت الى اخفاء وجهها بكفها ثم سألت سكرتيرتها بهدوء:
ـ هل فتحت الكيس؟
ـ لا .. لأني وجدت قصاصة موضوعة فوقه مدون فيها عنوان المرسل اليه..
ـ المرسل اليه؟ ومن يكون؟
ـ انت
ـ أنا ؟
طالعت السكرتيرة القصاصة وقرأت: الى الدكتورة "ميا مراد" لطفا..
حبست الطبيبة انفاسها للحظة ثم تساءلت: وما صلتي أنا بأمر الكيس؟
ـ اااااا..لا اعرف ولكنه يحتوي على كتب أو..... لا ادري..
مدت الطبيبة يدها فتقدمت "أم بان" نحوها.. لكنها ترددت في تسليم الكيس.. وحين حدقت الدكتورة في وجهها قالت بارتباك: اااا.. ألا ؟.....ربما مثلا...ااا... اقصد... لنقل...اخشى..".
فالسارد يوظف تيار الوعي الراصد للحالة النفسية والكاشف عما يمور في اعماق الشخصية.. اضافة الى تداخل الازمنة وتعدد الامكنة من جهة، ومن جهة أخرى تداخل الواقعي والرمزي والتصويري المشهدي الذي يروي احداثه سارد عليم يتنقل في زوايا الرؤية لتحقيق حركة الحياة بكل مفاصلها المتمثلة في "شخوصها وحواراتهم وانفعالاتهم واحداثها والمكونات البيئية والزمكانية"، اضافة الى تواصل التناوب بين ضميري الغائب والمتكلم والذي يقود الى التنقل بين السرد الذاتي والذاتي الآخر..
"غدت الجدة تُنشد من اسرار الكيس السلوى والعزاء معا.. فراحت تحتضنه.. تقرب فتحته من انفها كانها تنتظر نبأ سارا من خباياه.. مفاجأة صاعقة بحجم أوهامها تعيد الحياة لـ "مولو".
هنا نلاحظ أن بؤرة السرد ومرتكزه والمرجع الكنائي المشفر الذي يجري العمل على حل شفراته بلغة "تحمل انتمائها تاريخيا واجتماعيا وايديولوجيا.." على حد تعبير فيليب دوفور.. مع وصفية تحقق وظائفها الجمالية والتفسيرية..
"استيقظت حواسي كلها على هول الصعقة يا "بالاجاني"، شعرت بغصة وارتباك وداهمني القلق.. لكني سرعان ما أدركت ان وقوفي هكذا سيجلب الانتباه فتمالكت نفسي وسرت باتجاه الهاتف الارضي.. رفعت السماعة ببطء وقربتها من اذني وحالما تأكدت من سماع نغمة الادخال أدخلت رقم هاتف بيتنا في ثقوب القرص الدوار وانتظرت قليلا.. تناهى الى سمعي صوت "ميا" فاحتبس صوتي في حنجرتي.. لم اتمكن من الحديث.. أحسست وكأن جحافل من الوحوش تداهمني.. وكأن أسنة آلاف الرماح تتناهشني.. فجأة ابتلت عيناي.. ثم اغرورقت بدموع سكينة جعلتني أرى الوجود كله بلون واحد.. لون اسود قاتم.. كئيب.. اختفت كل الالوان السارة.. غامت خلف هالة من الدمع..
ـ من ؟
"ميا" الارق من نسمة المساء.. الاعذب.. الانقى.. آه اللعنة.. كنت أشعر بأحزان شتى يا " بالاجاني " بخسارات متراكمة رافقتني طوال حياتي.. سخرت مني مرارا وها هي تُطبق علي.. تخنقني.. تجعلني أتنفس من خرم ابرة".
يحرص السارد على ضبط العلاقة بين المكان والشخصية المعبرة عن الخصائص البيئية فيهتم بالوصف المكاني للحدث ويتابع حضور الشخصية عبر حواراتها، فضلا عن انه يمازج ما بين نسقين متضادين ومتصارعين: النسق الواقعي الذي يذوب داخل النسق التخييلي الآخر.. مع تركيز على الهاجس الانساني المنبثق من واقع متجسد في الحياة.. مما يدعو الى اعتماد الصورة الحسية بكل خصائصها.. كونها تلعب دورا توصيليا مستفزا للمستهلك "المتلقي" فتدخل فكره محققة لعنصر الدهشة التي هي وسيلة من الوسائل التكنيكية في البناء النصي فنيا.. باعتماد لغة مركزة على صميم الحدث وهي تعالج موضوعة الانسان المأزوم والحاجة الفكرية للمعرفة كي يحصل على قيمة وجوده الحقيقي وفق بناء فني متماسك ومرتبط بالمضمون، وبقدرة متوافقة مع الشكل السردي.. اضافة الى اعتماد الوصف كمحور اساس في سرد الاحداث وتفجيرها من دون ان يتجرد عن الخطابية الواعية ومحاولة ابراز الجانب الجوهري للشخصية وطريقة توزيع مناخاتها، كونه يريد ان يجعل منها معادلا رمزيا لفعل التواصل والاستمرار وعنصر الحركة الذي يشكل احد معطيات المستوى الحسي للغة السارد التي وظفت اللهجة العامية والموروث "يا زين الاوصاف ذابت مهجتي شخطاي/ انكرتني ليش شنو سبتي شخطاي/ الجسم مني نحل يا سيدي شخطاي".. وهناك الامثال العربية "احر ما عندي ابرد ما عنده" والبلوشية "دروغ به مرده عيبنت" = الكذب للرجل عيب وعار.. وكل هذا حصل بطريقة موحية اسهمت في تطوير البناء السردي دراميا..
ويصوغ السارد انموذجه المتفرد في جو يعتمد المشهد الذي يعرض جانبا مهما من جوانب الواقع معتمدا الاختزال في الامتداد الزمني، كونه ينطلق من واقع اجتماعي يعايشه ويعيشه بوعي.. لذا فهو يوظف الجزئيات للكشف عن دخيلة الشخصية وتطوير الحدث مع قدرة على الكشف عن كوامن النفس الانسانية باستخدام الحوار الذاتي.
"اتفق الجميع على مغادرة المقبرة.. ساروا ببطء مبتعدين عن قبور البلوش.. لكن "ميا" توقفت فجأة فتوقف زوجها معها.. التفتت نحو الشاهدة وراحت تتهجى بقلبها كلماتها المزيفة وتشم من بين حروفها رائحة الكذب:
الفاتحة
قبر الشهيد مولود مراد بالاجاني
أستشهد في قاطع الشلامجة
انا لله وانا اليه راجعون
حالما فرغت الدكتورة "ميا" من لعبة التهجئة الغامضة رددت بصوت مسموع أثار ذهول زوجها: أخيرا انتهت اللعبة يا صارم.. أمسيت بقبضة البلوش".
وبذا استطاع السارد ان ينقل بدقة ما يجري في البيئة المحلية بكل موجوداتها من وقائع واحداث وحوارات بلغة امتازت ببساطتها وواقعيتها وبعدها عن التعابير الانشائية الثقيلة فرسمت شخوصها واجواءهم ونقلت افكارهم بدقة امتازت بواقعيتها المصاغة بفنية عالية.. فضلا عن اعتماده الحركة المكثفة وتعدد زوايا حضورها متغلغلا في خيوطه السردية التي يحركها في مسار واحد معبرا عن الخارج بوصف الاشياء والموجودات وما يقابلها في الداخل حيث الانفعالات وحالات التذكر والاستذكار.

 

عرض مقالات: