بدءاً تنتظم رواية "لماذا تكرهين ريمارك"؟ بثلاثة نماذج من السيناريوهات هي:
ـ السيناريو الأساسي, يقدمه "الكاتب الحقيقي" محمد علوان جبر بالقصة المتناسلة من الأصل الروائي لمجموعته القصصية "تراتيل العكاز الأخير".
ـ السيناريو الوسيط, وتقدمه الفتاتان سميرة اليعقوبي ورندا البعلبكي عن برهان واكرم. ـ سيناريو العمق المتسع الذي يكتبه أكرم عبد الرحمن.
هذه سيناريوهات ترتبط بوظائف الفاعل الأربعة في الرواية وهي تحديد جغرافية الرواية, تنويع بيئة الشخوص, افتراض قيم علائق المتن, تسمية موجودات المدن.
لنتعاون على فهم علائق الروي على وفق الآتي:

أولاً: دراما الثيمات
ان عمليات الوعي تلعب دوراً مشوِّقاً يعادل دور الأحداث الخارجية أو يفوقها أهمية، ورواية محمد علوان جبر هي رواية نفسيّة جسدانية تقدَّم الأحداث، لا وفقاً لتسلسلها الزمنيّ، ولكنْ كما تتداعى في ذهن البطل أو غيره من شخصيات الرواية، فهي في بعض جوانبها منسجمة مع فرويد في أبرز نظرياته النفسية, أقصد نظرية السمات الشخصية الخاصة بالشعور واللاشعور وما بعد الشعور، ولكنها لم تكن بالضرورة نتيجةً لذلك.
المهاد المتقدم يحتاز على موضوعتين مهمتين: "التأكيد على الثيمة القيمية من جانب الوعي, ثم اللعب الزمني بما يُمَكِّن القائل او الفاعل من ابراز حالاته او حالات الآخرين وفقاً لما عليه الفكرة في الذهن أولاُ, ومن ثم عند تحولها سلوكاً, كما هو حال مذكرات".
من المؤكد تماماً ان كل هذا لا يجدي نفعاً ولا يستجلب قرّاء ما لم تحتفظ الرواية و قواها البلاغية الجمالية بفتنة ودهشة وغرابة حب الاستطلاع والمتعة واعجاب القارئ, فيتابعها حتى النهاية, ومن بينها ان يتقمص بطلها وكاتبها "الرجل" حالة نفسية, روحية وسلوكية تخص المرأة: الأخت, ثريا, والمرأة "الزوجة ثريا", وللصديقات سميرة اليعقوبي, ورندا البعلبكي, وهالة عبد المحسن, بما لها من شكل ومظهر ونشاط وعلائق اجتماعية, بل يصطنع لها تاريخاً سياسياً, وآخر ذوقياً, وآخر اقتصادياً, حتى لكأن الكاتب امرأة, لكننا ـ في المتابعة القرائية ـ نتفاجأ بأمرين, الأول أن المرأة هي قضية حضارية , وأن تاريخها الشخصي هو تاريخ تحولات البلد نفسه.

ثانياً : الاستشعار الذهني
نريد أن نقترح اسساً تكون أطرافاً في منظومة الاستشعار الذهني, كونه شعوراً مبكراً يسبق حدوث الحادثة بتخيلها, تماشيا مع نظرية فيصل دراج بهذا الشأن.
بما أن كل فكرة تولد أو ستولد "هي" خارجة أصلاً من مخفي "الظلمة الذهنية", لذا ستكون مغامرة توقع حدوث الذي لا يحدث, تدركه الظلمة الذهنية ـ الاستشعار ـ قبل ضياء المظهور.
لنتضامن مع الافتراض أعلاه بتأكيده إجرائياً في المقطع الآتي:
"
تستعيد ـ ثريا ـ الأيام التي أمضتها واقفة أمام ـ أخيها ـ برهان وهو ينحت تمثالها. تتذكر كلماته.. يطلب منها بما يشبه الهمس أن "ارفعي يمناكِ للسماء ومدي يسراكِ للأسفل, ثم افتحي أصابعكِ, وافتحي عينيكِ على سعتهما".
للنص أعلاه ثلاثة استشعارات:
ـ الأول قيد الظلمة لأنه لن يظهر إلّا بالتخمين, ونحن نخمن بأن العبارات توحي بأن الجمال "النحت" سيدفع بالناس الى التآخي الروحي والمجتمعي ويوحد البلاد.
ـ الثاني: يمثل استبصاراً فردياً يخص الفتى الذي يرى أن أخته ستكون مثل القديسين تطلب ما تشاء من السماء, عبر اليد اليمنى , لتهبه الى أهل الأرض باليد اليسرى.
ـ الثالث: يتعلق بدقة تنفيذ المنحوتة " تمثال الأخت "الدقة التي تنبئ بموهبة كبيرة لها أثر حضاري مستقبلاً.
+
اما الدلالات التي ستظهرها الرواية ـ سيتبين في المتون الاخرى ـ على النحو الآتي:
1
ـ ان الموجودات المادية موجودات إنسانية لها أثر الايقونة المكانية روحياً.
2
ـ ان القدريات لن تقرر المصائر كلها ان أتممنا الفعل الإنساني بالرغبة الصادقة في انجاز الجمال بطاقات فردية وجماعية.
3
ـ ان الابصار للعين والقلب يمكنهما من خلق حياة مفتوحة على الخير في النفوس وطيبتها.
4
ـ ان نموذج الاخاء الحميمي بذرة نحو الاخاء المجتمعي.
5
ـ الاستشعار العام "كونه نبوءة" يقرر الأفكار في الذهن قبل وقوعها على مستوى الروي والعلائق الاجتماعية, وكأن ظلام الذهن نور وجودي ينير العقل ويوجه قوى الخير نحو الابداع.

ثالثا: "ثقافية" المجتمع الروائي
يرى الباحث حبيب النورس أنه: "لم يعد النقد الثقافي ينظر إلى النص بما هو نص، ولا إلى الأثر الاجتماعي، الذي قد يُظن أنه من نتاج النص، إذ صار النقد يأخذ النص من حيث ما يتحقق فيه وما يتكشف عنه من أنظمة ثقافية، وأنماط تعبيرية وأيديولوجية وانساق تمثيلية، تمارس شتى أنواع الهيمنة والتحكم في المتلقي الفردي أو الجماعي، بطرائق متخفية ".
لعل الموقف الآتي يؤهل شروعنا في متابعات نقدية وكتابة نصوص تتوسط رؤاها بين انغلاق الايديولوجيا وانفتاح افق معلوماتية التجدد الفني الحيوي بما يستدعي ايديولوجيا نابعة من الفنون لا من السياسة والعقائد المتطرفة.
من المهادات المعرفية لحقل الايديولوجيا والنقد الثقافي, والموقف الموضوعي المضاد للأيديولوجيا الشمولية نتوصل الى ان المجتمع المرسوم في النص هو مجتمع فني يتخذ من ايديولوجيا الجودة الفنية بنية وغاية له.. بهذا الفهم نتوصل الى المعطيات الاجرائية الآتية:
1
ـ الايديولوجيا روائياً هي موقف ثقافي.
يقول اكرم: "جربتُ أن أُحول قصص حرب عراقية الى سيناريوهات, أرسلتُ بعضاً منها الى برهان الذي تحمس لها كثيراً, مرسلاً لي ملاحظاته, لكنه أعجب بسيناريو قصة لـلكاتب "محمد علوان جبر" عن "جندي يفقد ساقه في الحرب, ثم يفتح مقهى, بعد تسريحه من الجيش, فتنشأ علاقات كبيرة بينه وبين أمثاله... تنشأ علاقة بينه وبين زوجة أحد أصدقائه الموتى بعد أن طلب منها ان تعطيه الطرف الصناعي العائد لزوجها".
من الواضح ان النص ضد ثقافة العسكرة والظلم ونكران الحاجات الجسدية.
2
ـ الثقافة الايديولوجية خلقت لنفسها اعداء مفكرين وفنانين, إذ ها هو الفنان المفكر الصحافي برهان يحكي بعض خطوط هربه من أعدائه: "لحظة ختم ضابط المخفر الحدودي ليلا على جوازه المزور تأشيرة عبوره الحدود نحو الأردن! لازمته هذه اللحظة لأكثر من ربع قرن, ينساها كثيرا, نعم, لكنها تنبثق فجأة بشكل تتابعي الثواني التي وضعت خلالها الجواز أمام الضابط, تبرق بسرعة عجيبة, أتذكر فيها حتى رائحة دخان سيجارته, حيث وضعها على حافة منفضة زجاجية, ومن شباكه الصغير حملت أصابعه... ختم التصريح لي بالخروج".
3
ـ عقدة القوة المفرطة للسلطة هي الموضوعة الأكثر أهمية في العمل الروائي, سميرة اليعقوبي تنقل سميرة كلاما عن برهان:"سميرتي.. كان يا ما كان, كان لدينا دكتاتور: يتدلى من حزامه مسدس مشدود بإحكام, قيل أنه يحمله حتى حين يضاجع امرأته.. لم يترك شيئا لم يتدخل به حتى الطبخ وكتابة الروايات.. تركبه دائما موجات من الافكار التي يسميها نبوءات, أول نبوءاته البحث ليلا نهارا عن أعداء, وإذا لم يجدهم يخلقهم كي يحاربهم".

رابعاً: ايكولوجيا مخلوقات التعري الحكائي
"
الايكولوجيا... لحظة من لحظات تاريخ بنائنا للبيئة وعلاقتنا بها", ولكون الفكرة بناء ثقافياً تاريخياً للعلائق بين البشر والطبيعة سيكون تاريخ البشر جزءا من ثقافة الوعي بالطبيعة. لأجل تعرية المخلوقات من مخبوئها عبر الحكايا المقدرة لحيوات الكائنات الانسانية: "ركن السيارة قرب السياج الصغير لكازينو بنيت اعلاه شرفة عميقة, ممتدة بشموخ نحو البحر, تبدو كأنها سفينة عملاقة راسية على شاطئ! هنا اعتاد أن يجلس مع سميرة الى مائدة تطل تماما على صخور عملاقة تقف سدا رهيبا امام امواج تخور قواها فتنسحب الى أماكن سرية للبحر , ثم تعود بقوة تضرب ـ دون هوادة ـ صخوراً يراها من خلل دخان سيجارته على هيئة حيوانات خرافية لا تظهر منها الا رؤوسها, فيما أجسامها ملتصقة بالماء!
أحس بشوق لسميرة.. امرأة من ماء".
المخلوقات الاربعة المتوازنة "البحر والصخرة/ بموازاة/ وبرهان وسميرة" تتضافر لخلق:
أ ــ الجانب الحكائي
1
ـ حكاية مخمنة عن برهان وسميرة.
2
ـ حكاية أخرى تخص تاريخ المقهى المرتبط بتاريخ الصخرة.
3
ـ وثمة حكاية للتناص بين صخرة البحر لسميرة وقبة الصخرة لرندا بعلبكي الفلسطينية.
ب ـ جانب العري
ان عناصر ايكولوجيا الموجودات الاربعة السابقة تهيئ للبطل قوة تعرية ذاته وتحررها الى الحد الذي لن يخجل معه لتذكر بلذة او استنكار اي ظرف او حالة مرت به أو ستمر به لاحقا بما في ذلك قراراته الشخصية.
ج ـ مخلوقات التعري
ان المخلوقات التي تعري النفس جامدة وغير عاقلة وبكماء لكن الكاتب وضعها طرفي معادلة هي:
ـ الصخرة = سميرة اليعقوبي = بيروت
ـ ماء البحر = ماء هالة = بغداد
وهذا التجريد يشبه تعرية المدن على الخارطة إذ تتحول المدن الى رموز وخطوط, وما يقربها من الايقونات المادية الاجتماعية. بمعنى ان المخلوقات العارية هي مدن مستباحة جسدا وروحا لكنها قوية وصامدة وحالمة بالاشتهاء السامي ورغبات النمو والاستمرار والحفظ الأزلي للوجود.