من أصعب الامور على الكاتب ان يرثي زميلا له في المشهد الثقافي، حينما يغادر الاخير قبيلة هذا المشهد الى عالم الابدية، تاركاً اصحابه يذرفون الدموع لغيابه، مترحمين على روحه وطيب ذكراه، وفي قلوبهم غصة قد تطول او تقصر مع الحياة وهموم الوطن وشعبه، وخاصة فقراءه. وهذا ما عشناه من ألم خلال الاشهر والايام المنصرمة، حينما رحل عنا الشاعر خليل الاسدي، والروائي سعد محمد رحيم، والباحث الموسوعي حميد المطبعي.
وفي ما يلي وقفة ثناء ملزمة ان لم تكن استذكاراً مختصراً لمسيرة هؤلاء الثلاثة الابداعية، وحياتهم المهنية ومواقفهم الشخصية:

خليل الاسدي

غادرنا الشاعر خليل الاسدي في صيف عام 2017 من دون شجن او وداع، لأنه فضل العزلة في مدينة المحمودية قريبا من احدى شقيقاته بعد ان تنكرت له الاوساط الثقافية والاعلامية حينما فرضت عليه العطالة المهنية لأكثر من خمسة اعوام. فهل كان منطقياً ان يموت الاسدي نسيا منسيا، بينما ابناء جيله من الشعراء والقصاصين السبعينيين ما زالوا يتسربلون بالمجد والدعة، حتى وان ادعوا قلة الراحة؟
كان خليل الاسدي الاقل حملاً والاخف وزناً والاوفر حظاً من رفاق جيله الشعراء والقصاصين الشيوعيين داخل دولة البعث وقتذاك، لبساطة سلوكه وطيب معشره وحسن سريرته حتى وان تعرض البعض من هؤلاء الرفاق الى المطاردة والاعتقال او شتى انواع القهر والتهميش، الا انه خرج منها كفافاً لا له ولا عليه، من دون ان يطرح اسمه او شاعريته بقوة، وما ناله احد بسوء ولو بكلمة.
كثيرون من اصحابه كانوا أولى بهذه النهاية السريعة الغامضة، ومنهم من اصابتهم حمى الموت السريري في العراق او ديار الغربة لاسباب شتى، لكنهم سرعان ما عادوا بعدها، ربما اوفر صحة مما كانوا، وكأنهم يعاندون الموت او ان الموت هو الذي يعاندهم، وهو الادق والاقرب والاصوب.
لم يتعرض خليل الاسدي الى الضغوط والمساءلة الامنية ولم يجلس امام محقق يسأله ويستجوبه ويتهمه، لأنه ليس بشاعر قاتل او اديب مخبر، شأن البعض من ابناء جيله الذين آثروا الفتنة وكتابة التقارير.
ابتعد الاسدي عن كل ما يمكن ان يهزه نفسياً او يهزمه روحياً، معتمدا على راتب تقاعدي بسيط كجندي مصاب بعوق دائمي في كفه، وعندما اراد ان يطل برأسه مرة اخرى على الناس كشاعر وصحفي بعد التغيير العاصف في 9 نيسان 2003، وجد من يسانده في جريدتي "المدى" و" الاتحاد" وهو يستأجر شقة ارضية في قاع البتاويين فقيرة الاثاث الا من سرير وتلفاز وكتب مبعثرة مع طاولة مخصصة لكؤوس الطلى.
ولد خليل الاسدي في البصرة عام 1951 وعاش ردحا من الزمن في محافظة الكوت حيث توافر على قراءة دواوين الشعر العربي القديم والحديث مع شغف هائل بالرواية العالمية وافلام هوليود، وقبل ان ينهي دراسته الثانوية انتقل الى بغداد فعمل محرراً في الصفحة الاخيرة لـ "طريق الشعب" مع الزميلين نبيل ياسين وعدنان حسين حتى عام 1978، حيث تكشفت موهبته الشعرية في قصائد التفعيلة والعمود والنثر معاً، وعدّ شاعراً متميزاً من ابناء جيله لحنكته الشعرية في البحور والاوزان. ولكنه، للأسف لم يحض بدراسة نقدية منصفة من اساتذتنا النقاد لاسباب شتى، منها عزلته المعروفة عن التجمعات الادبية والصالونات الثقافية، وما يتبعها من بيانات واعتراضات واختلاطات، فكان لا يستطيب الاعلان عن نفسه، ولا تستهويه الشهرة بالمرة. وكان للاسدي زمرة طيبة من الشعراء الظرفاء المشاكسين، منهم من قضى نحبه ومنهم من "...."أمثال: جان دمو وقيس لفتة مراد ومنذر الجبوري وهاشم شفيق وزاهر الجيزاني وعقيل علي وكاظم غيلان وخضير ميري وناجي ابراهيم وحميد قاسم، وهو يختلف عنهم في هذه المشاكسة ولكنه يأتلف معهم في العشرة الطيبة.
انتج خليل الاسدي خلال اربعة عقود، اربعة او خمسة دواوين – كما اظن – كان آخرها "ويظل عطرك في المكان" مع كتاب سردي صغير اشبه بالمذكرات يضم قصصا متنوعة حول معاناته الدموية في ما سمي بـ "حربالقادسية" التي خرج منها معاقاً في يده اليسرى، وهو ما ترك عطباً نفسياً في حياته وشعره.
لقد اكد لي خليل ذات مرة، بأن الناس هم نقادنا اولا واخيرا، وان قصيدة لا تلامس احداً ولا تتزوج احداً، هي قصيدة عانس، تبقى محبوسة بين جدران اللغة الاربعة، حتى تموت.
ان الاحباط النفسي الذي عاناه وعاشه خليل الاسدي في سنواته الاخيرة نتيجة لعطالته المذكورة، لا يتوقف عند حدود شخصيته بالطبع، فلو اهمل اي مريض نفسه فانه يمكن ان تسبب له امراضا عضوية مصاحبة، لا تكون بعيدا عن تقضي عليه تماماً. وتقريبا هذا ما حصلن فخليل تعب نفسياً ثم تعب عضوياً فتكاثرت عليه الامراض، فمات.

سعد محمد رحيم

قبل ان يرحل الاديب المبدع سعد محمد رحيم بشهرين او ثلاثة الى فردوسه المفقود، التقينا في احدى جُمع شارع المتنبي الكرنفالية لثلاث مرات عابرة طيلة ساعتين متصلتين. في الاولى قرب مقهى حسن عجمي، حيث تبادلنا التحية وهنأته على روايته "موت بائع الكتب" فشعت عيناه الصغيرتان بالسرور، وشكرني بأدب جم. وفي الثانية تحت نصب المتنبي، الى جوار نهر دجلة تحت ضجيج البشر وزعيق النوارس، فأشرت بيدي نحو تلك الطيور المحلقة قاصداً امراً يعنيه شخصياً، ولكنه بفطنته المعروفة قال:"لا تظن انها الكراكي يا صديقي، لانها لا تعيش الا في الجبل". وكنت حقا وددت التذكير بروايته الاولى "غسق الكراكي" التي نددت بالحرب العراقية الايرانية في ثمانينات القرن الماضي.
وكان المرة الثالثة والاخيرة معه في ذلك اليوم الشتوي الدافئ في ساحة الرصافي حينما كنت متهيئاً للعودة الى البيت، فكررت اعجابي برواية "موت بائع الكتب" فقال بعتب شفيف:"كأنك لم تقرأ بعد روايتي الاخيرة"، وهل لديك ثالثة يا سعد؟ بلى.. بلى. انها "فسحة للجنون" وسأجلبها لك عن قريب. وهكذا افترقنا بمرح، من دون ان يخطر ببالي ابدا انه اللقاء الاخير لي معه.
ولكن اللعنة على "الموجز الثقافي" في قناة الشرقية، الذي يأتينا بأخبار موت الاصدقاء والاحبة في اوقات مختلفة من دون سابق انذار، كما حصل في موت الشاعر دينار السامرائي ود. فاضل خليل وفالح عبد الجبار وآخرين. وهكذا استقبلت رحيل صديقي سعد محد رحيم في شهر آذار المنصرم بمزيد من الأسى والكثير من الدموع.

وسعد كاتب مبدع مجتهد في القصة والرواية والنقد منذ التسعينيات، ولكن النقد لم يول ما كتب من الاهتمام ما يستحقه، ومن الدراسة ما هو جدير بها، كما كان يولي الآخرين من الاهتمام والكتابة عنهم، والسبب يعني النقاد وعددهم النقدية وانحيازاتهم الشخصية، ولا يعني منجزه وعافيته الابداعية. اما سعد فقد كان دائما متحرجا زاهدا في الحديث عن نفسه وعن عوالمه الثرة.
والأجل من كل هذه الحصيلة انه توافر على منهج قرائي خاص في التعامل مع عيون السرد العربي والعالمي فضلا عن جنوحه المبهر في نظرية الادب والتاريخ وعلم الاجتماع، خصوصا في كتابه الاثير "استعادة ماركس" وهذا لم يبدعه آخر من اقرانه. لقد عانى سعد الكثير من الاضطهاد والجور في الزمن الدكتاتوري السابق، كونه مدرساً او تربوياً ينبغي ان يخضع روحه ودمه للحزب الواحد. ولكن سعداً وتحت مدركات قوميته الاخرى التي تناهض هذا الابتزاز عاش قرابة عامين في معتقلات وسجون الامن العامة، ولعل قصته "زهر اللوز" في مجموعته الاولى التي حملت العنوان ذاتهتكشف عن معاناته الشخصية في ذلك الزمن العصيب.
طابت ذكرى اديبنا المبدع سعد محمد رحيم في قلوب اصدقائه ومحبيه.

حميد المطبعي

وحل رحيل الاستاذ الاديب والباحث المعروف حميد المطبعي فقد ودعت الاوساط الثقافية والرسمية في العراق شخصية اشكالية جليلة في مشهدنا الثقافي العام، وكيف لا؟ وهو الرائد المكافح في ارساء قصيدة النثر في العراق بعد الشاعر الراحل حسين مردان، بالاضافة الى موسوعته الكبرى حول اعلام العراق، وحولياته العديدة لرجالات الادب والفن والسياسة طغى فيها الادبي على غيره.
قال عنه العلامة محمد بهجة الاثري:"كاتب من طراز خاص، متفنن لسن، يحاول مغالبة محاوره ويحسن اثارته ليظفر منه بالصريح من الرأي والقول". وقال عنه استاذ الفلسفة الاديب مدني صالح: " يستدرجك للحديث، ويستدرجك الى الكتابة ويلح، ويلح، ويلح، ويلح.. ويستخرج منك المقالة ويطير فرحا بها الى النشر كأنك اغنية".
الطريف المستظرف في المطبعي انه كان قوميا معلنا منذ ان رأس تحرير جريدتي "العامل" و"النقابي" عام 1963. ولكنه لم يسع الى ان يكون عقائدياً او حزبياً مترفا كحال اصدقائه من الرفاق الذين تبوؤا المسؤوليات والمناصب والجاه والثروة. لقد اتخذ المطبعي مساراً وطنياً حقيقياً في اصداره لمجلة "الكلمة" بمعية زميله الراحل المبدع موسى كريدي، وقد عدت هذه المجلة من ارقى المجلات الثقافية العراقية خلال الاعوام (1967- 1974) بعد ان احتفلت بأجيال الخمسينات والستينات، ثم اختتمت اصدارها بجيل السبعينات الشعري والقصصي بعددين متتاليين تحت عنوان "جيل ما بعد الستينات"، وكان لصاحب هذه السطور شرف الاسهام في عددها الاخير بقصة "الانتظار". ومن فضائل هذه المجلة انها كانت تكلف بنقد قصائد اعدادها الماضية وقصصها ومقالاتها، وكانت تحثهم على مراجعة المجاميع الشعرية والقصصية التي ينشرها ادباء الجيل الجديد.
لقد خلق المطبعي في تلكم السنوات شيئاً تعجز المؤسسات الثقافية وقتذاك ان تجاريه، فلم يكن الرجل صاحب مال، ولا شهرة، ولا نفوذ، ولا مطبعة، كما اعترف البعض من رموز هذه المؤسسات مؤخراً. ولكن المطبعي كان صاحب طموح فأسس مجلة ثقافية وتحمل اعباءها المالية والادارية والقانونية، بل شيد دارا للنشر من دون ان تكون ثمة دار ولا مقر ولا رأسمال، ولكن ديناصورات وحيتان وغيلان المؤسسات الثقافية اجهضوا "الكلمة" وصاحبها تحت مخاوف راديكالية خطابها والذعر من ان تصبح مؤسسة وطنية مستقلة تضاهي مؤسساتهم الرسمية، وزعموا من دون حياء بامكانية ان تتواصل مجددا في اداء رسالتها لو انتهجت سياسة واضحة تستند الى المعرفة والجدية، بدلا من المزاجية والاستسهال والخفة!
ولكن الرجل أبى واستكبر على مثل هذه الوصاية او المساومة الرخيصة، ففضل ان يغرد خارج السرب متفرغا لدراساته وابحاثه وحولياته الثقافية، فقد كان انسانا مكافحا وناشرا مخلصا، ومات فقيرا الا من تركته الموسوعية.