لم يدر بخلدي ذات يوم أنني سأكره المطر، لما أشعر به وهو يتغلغل بين كل مسامات روحي فرحا وانتعاشا كلّما سرت تحته!

منذ أن فتحت عينيّ على المطر، وأنا طفل أحبو في باحة بيتنا الطيني في أقصى جنوب القلب، عشقت المطر، وعشقت رائحة الأرض بعد سقوطه، لهذا أجدني منتعشاً ومبتهجاً وحالماً لحظات هطوله!

كانت قريتنا تزدان بالمطر، وهو يطرق الشبابيك والسطوح ويجعل من المزاريب آلات موسيقية تعزف أجمل الألحان وهي ترمي بالماء على الأرض ليحفر أخدودا يأخذ مسارب شتى!

كنّا ساعتها مجبولين بالعشق القروي للمطر، نلعب، ونفتح اكفّنا لنتلقف حبيباب الحالوب جاعلين منها حلوى باردة في أفواهنا!

كانت البساتين تلبس حلّتها الخضراء المبتلّة، يقطر الماء من سعف النخيل وأغصان الأشجار والأوراق ليلثم خدّ الحشائش والأزهار!

كبرنا، وكبر هذا العشق المطريّ في أرواحنا. ولكن .. و(آه من لكن) أصبحنا الآن نتهرب منه، بل نتذمّر وننزعج حين تمطر، وندعو من كل قلوبنا أن لا تمطر أبداً، مع أننا نعرف جيدا أن المطر حياة الأرض، وان السبب في الخراب هو سوء الخدمات!

عند أول قطرة تطفح المجاري المسدودة، وتفيض الشوارع، وتغرق البيوت والأسواق، ويتسرب الماء من السطوح (يخرّ سطح البيت) وتسقط منازل عديدة!

لهذا نتوقف ونقول: ماذا قدّمتم للناس خلال هذه السنوات، غير الخراب والقلق والأمراض والموت؟!

كان الناس يدعون لزوال حكم الطاغية الفاشي الذي جرّ البلاد إلى حروب وموت وخوف مزمن، وينتظرون ساعة الخلاص منه، وقد رقصوا وغنّوا في الشوارع والبيوت فرحين بسقوطه، حالمين بأيام خير وسعادة وهناء. لكنكم بددتم فرحتهم، وسرقتم سعادتهم، وضيعتم أحلامهم! جئتم باحترابكم الطائفي، ومحاصصتكم المقيتة التي شرعنت الفساد، ولا تزال تشرعن كل يوم قانونا لا يقبل به عقل ولا منطق ولا ضمير إنساني أبدا!

لم تفكروا ببناء الإنسان بناءً حقيقياً بعدما أنهكته الحروب والفاشية، ولم تقدموا له العلم والمعرفة والخدمات والحقوق!

لم تفكروا ببناء الوطن بناءً حقيقيا، من خلال إعادة الحياة إلى المصانع والمعامل والمزارع والعمران والعدالة والحرية والتقدم في كل شيء!

بناء الوطن يأتي من خلال بناء الإنسان ،، وعشق المطر يعني عشق الحياة  والجمال !

فسادكم ، وانتشار الخراب وسوء الخدمات واللامبالاة، وعدم التفكير الحقيقي والصحيح ببناء الوطن، جعلنا نكره المطر مرغمين لأنه بسبب سوء الادارة والخدمات يفسد علينا كل شيء !