عملية تحويل الحكاية إلى نص فني تحتاج الى المرور بعدة مراحل، أهمها "السرد، اللغة، الأسلوب، المكان، الزمان" وخضوعها لتقنيات السرد "الحوار، الوصف،..." وما أطلق عليه جيرار جنت، المفارقات الزمنية "الارتداد او الاستذكار، القفز، المنلوجات الداخلية، المشاهد الصامتة"، كل هذه الخلطة، بإمكانها أن تحول الحكاية من مادة خام إلى قصة، تتمتع بمواصفات العمل السردي الأدبي، يتذوقها القارئ وتؤثر فيه ويتفاعل معها، لكن هنالك عنصر مهم يجب أن يؤطر هذا التحول التسلسلي للحكاية ويعمل على تغيير بعض ملامحها المجردة، ليجعلها أكثر تقبلا وتشويقا وحرفية، هذا العنصر هو "الخيال".. يقول الروائي المصري نجيب محفوظ "الخيال هو همزة الوصل بين الواقع والقصة".. أي لا يمكن في كثير من الأحيان نقل الواقع بصورته الفجة المجردة، ما لم نضفِ عليه شيئا من الخيال والتصرف التقني والفني، وتغيير بعض ملامحه، لإضفاء طابع جمالي إبداعي عليه، فالمخيلة تمثل "وعيا حميما غير مألوف" كما يعبر عن ذلك "يونك".. تفرض نفسها على النص بطريقة وأخرى.
في المجموعة القصصية "رأس للإيجار" للقاص كريم صبح نلاحظ وجود مجموعة كبيرة من الحكايات، التي تمثل أفقا واسعا لحراك اجتماعي أنساني فطري، تعددت ثيماتها وتنوعت، استطاع كريم صبح، ترويض هذه الحكايات وتهذيبها ووضعها في قالب سردي قصصي محكم، استند إلى شروط كتابة القصة وركائزها المهمة.. فكانت نصوص مجموعته تقارب تجارب حياتية تكررت عبر التاريخ، ضمن متوالية إنسانية خضعت لعوامل البيئة والدين والتراث، إلا انه أعاد تشكيلها وصياغتها برؤية فنية أكثر عمقا وتعبيرا، منطلقا من بعدين متقاطعين:
الحداثة وما بعدها وتأثيراتها على الإنسان المعاصر.. والتراث والحكايات الشعبية .. شكل هذا التعالق بين هذين البعدين تركيبة متجانسة، مستثمرا خبرته الأكاديمية والفنية لصياغتها وفق مبدأ فاليري "الذئب هو مجموعة من الخراف المهضومة".. أي إن ما قدم ألينا في رأس للإيجار هو نتاج ومحصلة لتجارب إنسانية تراكمية، مرت عبر متوالية اجتماعية وتاريخية، لتتمظهر بنصوص ورؤى جديدة وفق أسلوب فني حداثي، كما عبر عن ذلك الناقد جيرالد برنس "وظيفة القص تحويل الواقع الفج إلى عمل فني".
تميزت النصوص بكثرة الأسماء التي وردت فيها "أسماء أشخاص، أسماء أماكن"..ذكر الأسماء يعد إثقالا للسرد في الفن القصصي، او ما يطاق عليه اصطلاحيا "إثقال براءة النص"أي وضع إضافات لا مبرر لها، وليس ذات معنى أو دلالة، كون الأسماء في الفن القصصي تورد لسببين:-
الأول: تذكر أسماء الأشخاص والأماكن لدلالة قصدية، أي أن تحمل تلك الأسماء دلالات قصدية، الهدف منها الإشارة إلى طائفة أو دين أو مكان، يحمل قصدية دينية او قبلية او أثنية او سياسية.. في رأس للإيجار حمل الجانب الأكبر من الأسماء هذا المنحى القصدي، وتخلى عنه في بعضها اليسير.
الثاني: تذكر الأسماء للدلالة الرمزية، أي استخدام أسماء تعطي إيحاء رمزيا ومعنويا واعتباريا، بسبب تأثيرها الديني أو السياسي او الاجتماعي أو التاريخي.. بحيث يعمل هذا الاسم على إكمال وتعضيد ما يسعى القاص إلى إيصاله.

أهم نصوص المجموعة:

1- قصة "مدفن": مثل هذا النص جدلية تاريخية عاشتها الإنسانية لقرون طويلة، وشكلت المادة الخام لكل الأديان السماوية والوضعية منها، هذه الجدلية هي الصراع القائم بين الفضيلة والرذيلة.. تحدث النص عن نفس حائرة، تبحث عن ذاتها في ظل هذا الصراع غير المتكافئ بين الإنسان وغرائزه.. الرجل الذي يسكن بجوار ملهى ليلي، ينتهي هذا الصراع بانتصار هذه الغرائز.
2-
قصة الرجال يليقون بالسواد: يعد هذا النص جزءا من أدب الحرب، الذي حاول القاص فيه تسليط الضوء على إحدى نتائجها المأساوية وتأثيرها على النفس الإنسانية.. سارد ضمني يروي قصة حبه لفتاة من طرف واحد، بعد أن لاحظ اهتمامها به ومراقبتها له، من بعيد ظنا منه إنها تحبه، بعدها يكتشف إنها كانت تنظر إليه لأنه يشبه أخاها الذي استشهد في معركة تحرير الموصل.. كانت لغة النص سلسة وإيقاعها هادئا، كأغلب قصص المجموعة.
3-
قصة "عمو" المهملة: استخدم القاص في هذا النص أسلوب الحكواتي في طريقة سرده، مع زجه بمقاربات لغوية وإيحائية تتماهى مع قصص ألف ليلة وليلة، كما في هذا النص "فاحذروا يا سادتي الرجال فقد تبع ذلك الحديث خطوة تمارا المفهومة والمسوغة في قاموس النساء".
4-
قصة ذهب مع الريح: يحمل العنوان تناصا لغويا مع الرواية العالمية "ذهب مع الريح "للروائية الأمريكية "مارغريت ميتشل" التي كتبتها إبان الحرب الأهلية الأمريكية، وهذا التناص اقتصر على العنوان فقط، ولم يستطل إلى فحوى أحداث الرواية أو ثيمتها.. تميز النص بغرائبيته حيث شكل جزءا من موروث فلكلوري شعبي، يحمل قيمة اعتبارية، حتى انه ذهب مذهب المثل، لاحتوائه على دلالة رمزية، استخدم القاص لغة هجينة بين الفصحى والشعبية.
5-
قصة الواوي وصاحب الجلالة: بدت بعض نصوص المجموعة على إنها تسجيل وتوثيق لأحداث تاريخية حقيقية، حدثت بالفعل عزز هذا التصور ذكر الأسماء والأماكن، والتفاصيل الدقيقة للإحداث وتداعياتها.. كما في هذه القصة، التي تحكي عن ثعلب اصطاده الجنود الانكليز إثناء احتلالهم للعراق 1918 في إحدى بساتين شيخ عشيرة.. فتحول هذا الحادث الى شرارة ثورة، أدت إلى وقوع تصادم عسكري بين القبائل والانكليز ثأرا للثعلب، الذي أسروه وأرسلوه إلى ملك انكلترا كهدية.. كان النص عبارة عن حوارية طويلة بين شخصين يعملان في مجال البحث التاريخي، تم سرد هذه الأحداث من خلالهما عبر عملية استرجاع لتاريخ العراق الحديث، حاول القاص من خلالهما خلق حالة من التعالق التاريخي بين الماضي والحاضر.. أي الربط بين هذه الحادثة ومعركة تحرير الموصل من يد الإرهاب.
6-
التوأم والقس: نص يحتاج إلى التوقف عنده، كونه نصا ماراثونيا من حيث تشعب أحداثه وكثرة تفاصيلها، وتعدد أبطاله، قياسا بفن القص، الذي يعتمد الاختزال والتكثيف ووحدة الموضوع.. كان بالإمكان أن يتحول هذا النص الى رواية ناجحة، لغرائبية الأحداث وتشعبها ، ولقيمتها التاريخية والاعتبارية في الذاكرة الجمعية للعراقيين.. يحكي النص قصة طفلين مسيحي ومسلم، اضطرتهما الظروف الى انن يعيشا معا.. الأول كان مصابا بالتقزم والشلل والآخر أعمى.. ليعيشا مجموعة من الأحداث والتداعيات، قادتهما إلى انعطافات كبيرة ومفصلية في حياتهما في المجتمع البصري في عشرينيات القرن الماضي، لينتهي هذا المخاض العسير بموتهما وحيدين منبوذين.. تميز النص ببنائه الهرمي الرصين، وهذا ما أشار إليه الناقد عبد الجبار عباس "يفترض التنظيم التركيبي وجود حادثة سابقة ومقدرة وأخرى لاحقة مخمنة وأخرى متوسطة بينهما، تعتبر قمة التنظيم، وتسمى الضربة ".. هذا التسلسل المنطقي للأحداث تم عبر مراحل هي:
1-
موت أبويهما بتلك الطريقة الدراماتيكية.
2-
اعتناء جوزفين المربية البريطانية بهما.
3-
عملهما في المقهى.
4-
اتهام سمير المسيحي المعاق بالتجسس، ونبذهما كلاهما من قبل المجتمع البصري.
يبدأ النص بعتبة سردية هي اقرب إلى الروبرتاج التسجيلي، عن مدينة البصرة مكان الأحداث وساحتها .. حيث استعرض القاص بإسهاب تاريخها وعرف بمناطقها وإحيائها المهمة، وتفاصيل عن حياة أهلها وطرق معيشتهم آنذاك، مما اكسبه بعدا واقعيا انطباعيا على الرغم من غرائبية الحدث الذي شكل عموده الفقري.. كما في هذا النص الذي يشرح فيه القاص معنى كلمة عشار "العشار – التي عرفت بهذا الاسم لأنها الموضع الذي يؤخذ فيه العشر من ثمن البضاعة المستوردة، أو المصدرة..." وكذلك احتوى النص على ذكر تواريخ وأحداث بالتفصيل، وتضمين قصص جانبية في مقاربة ميتا سردية نادرة الحدوث في الفن القصصي، استخدمها القاص لتعضيد نصه الرئيسي مثل قصص "القس برادلي، جوزفين المربية".. يشير النص إلى قصدية استطاع القاص إيصالها عبر هذه العلاقة الغربية التي جمعت بطلي النص "سمير المسيحي المشلول وبشير المسلم الأعمى "من خلال التأكيد على وحدة المحنة والمصير اللذين جمعاهما، بعد ان فرقتهما الهويات والانتماءات الفرعية، الاثنية والعرقية.. وقد أشار القاص إلى هذا المعنى، عندما استعرض طريقة حياتهما وكيف اعتمد احدهما على الآخر كي يواجها مصاعب الحياة.. "ضعفهما المشترك أصبح قوة، وصار احدهما يكمل الآخر، وقد جربا ان يقاوما قسوة اختبار الحياة بضعفهما، فسمير القزم المشلول المحمول على ظهر بشير، اعتمد على الأخير في تنقلاته في شوارع البصرة، في حين اعتمد بشير الأعمى على سمير في إرشاده على الطريق".. كما ان هناك إشارات على طبيعة التعايش السلمي الذي كان سائدا في المجتمع العراقي آنذاك، بين الطوائف والاثنيات المختلفة، كما في هذا الحوار الذي دار بين القس برادلي وسمير المسيحي:
-
لا أنا ولا هو نهتم بعقيدة الإنسان المسلم والمسيحي والصابئي واليهودي في هذه المدينة كلهم يعيشون تحت مظلة التسامح.
7-
ذاكرة المكير: نص يتناول قصة حب تنتهي بالفشل، بعد أن رفض أهل "سمر" حبيبة البطل وزميلته في الدراسة زواجهما.. العتبة الأولى للنص تبدأ بركوب البطل القطار العائد من الناصرية الى بغداد، وهنا تحدث المفارقة السردية، عندما يشاركه مقعده رجل مسن يحمل جهاز تسجيل.. يسمعه خلال رحلتهما، أغنية المكير للفنان ياس خضر، وقصتها التي مثلت عملية تضمين ميتا سردي، سار بموازاة النص الرئيسي وتقاطع معه في دلالته القصدية والاعتبارية.. تميزت لغة النص بشاعريتها وإيقاعها الهادئ الحزين. كما كانت هناك إشارات حسية للمكان وتأثيره النفسي على الإنسان، لذلك يمكن اعتبار قصة المكير من قصص التشيؤ.. أي إنها تمثل عملية امتزاج وتعالق بين الإنسان والأشياء، المحيطة به.

عرض مقالات: