عصرنا هو عصر العولمة والثورة الرقمية والاتصالات والتنوع اللامتناهي للمعارف الانسانية والعلمية بشكل لم يشهده القرن السابق، وسيستمر هذا كعامل مهم في التقدم الاجتماعي شرط استخدامه في الحياة الاجتماعية، وفي النضال لفتح آفاق جديدة في حل الأزمات المستعصية للأنظمة التسلطية، ومنها النظام السياسي في العراق، المأزوم والذي فقد القدرة على الاستمرار بدون اصلاح جذري وتغيير حقيقي.
وجاءت الاحتجاجات الشبابية والطلابية والنسوية التشرينية، التي غلب عليها الطابع العفوي الجماهيري وسعة قاعدتها الشعبية وافتقادها الى الهيكلية التنظيمية التقليدية والتأكيد على الطابع السلمي، انعكاساً لهذه الازمة أيضا. ومن الظواهر الهامة الاخرى تصاعد حالات القمع المفرط والقنص من جهة، وتغلغل فرق متغولة في داخلها لأسباب عدة يجمعها هدف واحد هو إضعاف الاحتجاجات وانهائها كليا، خدمةً للطبقة السياسية المحتكرة للثروة والسلطة والتي تدعمها الميليشيات المسلحة.
ويقودنا هذا الى السؤال: لماذا انخرط هؤلاء في منظومة بلطجية البرجوازية الطفيلية والبيروقراطية العراقية؟ الجواب يكمن في جدلية الحقيقة والزيف في الوعي الفردي والجمعي العراقي.

تكامل الوعي والنضج الفكري

تؤكد التجربة التاريخية ونتاجات العلوم ان المعرفة وما ينتج عنها من وعي بما يردها، عند الاتصال بالواقع الخارجي عبر الحواس الخمس التي هي نوافذ للعقل، تتبلور ومن خلالها منظومات الأفكار والمعلومات والحقائق حول الواقع الماديّ والنفسي، وجملة من الآراء والتقييمات والمصطلحات والمفاهيم. وعبر هذا التراكم المعرفي من الخبرات اللصيقة بالممارسة العملية، يتكامل الوعي والنضج الفكري في فهم وتحليل وتقييم ما يحدث من حوله وتحديد الموقف منه قبولا أو رفضا.
لذلك فهي عملية جدلية تخص الذات الإنسانية المدركة للعالم الخارجي والمرتبطة بالممارسة العملية للنشاط المادي والاجتماعي .فالوجود الاجتماعي هو الذي يحدد الوعي الاجتماعي الذي يتكون من موشور واسع متباين ومتحرك من اشكال الوعي. لكنه دائما ما يعكس التناقض الرئيس بين ايديولوجيات تمثل منظومة السلطة، وأخرى تعبّر عن احباطات وتطلعات الفئات الاجتماعية التي تجمعها هموم اقتصادية واجتماعية ونفسية مشتركة. و لكن لأن لكل ظاهرة نقيضها فليس كل ما يتكون من مفاهيم ووجهات نظر أو أفكار متعلّقة بالحياة والمجتمع والطبيعة المحيطة به، يشكّل وعياً حقيقياً، بل هناك أيضا اشكال زائفة من الوعي ومعاكسة، بسبب عوامل مؤثرة وضاغطة هي جزء من الترسانة التي تستخدمها الطبقة المتسلطة في العراق لتغييب الوعي وتزييفه.
ومن العوامل المؤثرة في صياغة تفكير الإنسان ووعيه، تراكم المفاهيم والقيم والقناعات في حياته المبكرة واللاحقة، الآتية من الأسرة والمجتمع ومنظومات التعليم والتربية والثقافة الرسمية والدينية. وهناك ثانياً نوعية المنهج الفكري للفرد. وهو عادة صراع بين المنهج العلمي الذي يستند على العلوم والمعرفة، خاصة في ما يشهده العالم من تطورات متسارعة في علوم الكون والانسان كالجينات والاستنساخ والعلوم الطبيعية، وفي المنهج الروحي الديني الذي يعظم المقدس ويقدم تفسيرات للفكر والطبيعة والمجتمع لا تنسجم مع تطور المعارف والعلوم، خاصة في حالات التطرف والسلفية والتكفير وتحريم الاجتهاد خارج المقدس المطلق. وثالثا، تراكم الخبرة والتجربة البشرية المعاشة في الحياة اليومية من سياسة واقتصاد وقضايا حياتية اجتماعية، وهي في حالة صيرورة مع متغيرات الواقع والحياة. اما النهائية لدى الفرد فهي انعكاس لواقعه الاجتماعي وتفاعله مع بيئته الاجتماعية، يتفاعل فيها خليط من الأفكار والقيم والمشاعر لفهم هذا الواقع الاجتماعي وتطوير آليات عقلية لتنظيم هذه العلاقة. ومن بين التشخيصات النفسية مفهوم الاغتراب لدى ماركس، او التشيؤ لدى لوكاش.
وخلاصتها هي ان الوعي هو منظومة من الأفكار والمعلومات والحقائق والآراء والمفاهيم ذات الجوهر الماديّ أو المعنوي. وعبّر عنه ماركس بأن الوعي هو بناء فوقي تندرج تحته كافة الأنشطة الإنسانية، التي تجعله قادرا على التوصل الى فهم معين لمجالات حياته الاجتماعية وتطوير آليات لتغيير هذا الواقع وإصلاحه. وهي في الوقت ذاته تعكس أفكارا ومقاربات منهجية تتأثر بالأيديولوجيات المهيمنة تجسّد مصالح طبقية محددة. ففي العراق مثلا تشكل البرامج السياسية للأحزاب المسيطرة أداتها في خوض الصراع الفكري المحتدم، بهدف تزييف الوعي الطبقي وخلق حالة من التشظي والانقسام داخل الفئات المسحوقة والكادحة والمهمشة، في مواجهة الصراع السياسي والاجتماعي المحتدم حول ضرورة وشكل ومحتوى التغيير الذي تطالب به جماهير الاحتجاجات، وأيضا بغرض تجنيد الأعضاء والحلفاء الوقتيين والدائمين، والنفاذ عبر الواقع الصعب الذي يعيشه من تبلور لديهم وعي زائف من خلال استغلال ظروفهم المادية والاقتصادية، ودفعهم لإتخاذ مواقف معادية للاحتجاجات أو حتى تجنيدهم في نشاطات إجرامية مخالفة للقانون العراقي وحقوق الانسان.

البناء الاقتصادي والوعي الاجتماعي

وقد حلل ماركس في مقدمة كراس “مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي” الأساس الفكري لهذه الظواهر الاجتماعية عندما شرح كيف إن الناس أثناء الإنتاج الاجتماعي لحياتهم يقيمون في ما بينهم علاقات معينة ضرورية مستقلة عن إرادتهم. وتُطابق علاقات الإنتاج هذه درجة معينة من تطور قواهم المنتجة المادية. ومجموع علاقات الإنتاج هذه يؤلف البناء الاقتصادي للمجتمع، أي الأساس الواقعي الذي يقوم عليه بناء فوقي حقوقي وسياسي وتطابقه أشكال معينة من الوعي الاجتماعي. إن نمط إنتاج الحياة المادية يشترط تفاعل الحياة الاجتماعية والسياسية والفكرية بصورة عامة. فليس إدراك الناس هو الذي يعيّن معيشتهم، بل على العكس من ذلك، معيشتهم الاجتماعية هي التي تعيّن إدراكهم. وعندما تبلغ قوى المجتمع المنتجة المادية درجة معينة من تطورها، تدخل في تناقض مع علاقات الإنتاج و تصبح قيودا لها تعيق تطورها اللاحق وتفتح أفق الثورة الاجتماعية.
ومن اشكال الوعى الزائف تلك التي تدفع الناس إلى القناعة والقبول بالأمر الواقع، وتؤدي الى العزوف عن المشاركة العملية والفعلية في الاحتجاجات الشعبية، بينما قد تدفع آخرين في اتجاه معاكس نحو التطرف وتقديس العنف والمطالبة بحمل السلاح، بدون النظر الى الشروط الذاتية والموضوعية التي يجب توفرها لانطلاق الثورة المسلحة.
في هذا المثال من الوعي الزائف والخاطئ تعيق الأدوات الأيديولوجية السائدة إدراك الناس لحقيقتهم وحقيقة واقعهم، وكونهم هم من يستحقون اقتصاداً معتمداً على قطاع صناعي وآخر زراعي، يوفران فرص العمل للملايين والحياة الكريمة للمواطن العراقي. وهم الذين يستحقون الموارد النفطية ومئات التريليونات من الدنانير، وليس البرجوازيون البيروقراطيون والطفيليون الذين يملكون وسائل الإنتاج ولا يعملون ولا يساهمون في الإنتاج، بل يمارسون سرقة الريع النفطي وتحويله الى حسابات سرية وشركات قشرية زائفة وعقارات في الخارج.

صراع الوعي العفوي والوعي الزائف

لذا فإن وعي المهمشين والمحرومين والعاطلين عن العمل يشهد صراعا بين الوعي العفوي ضد الظلم والاستغلال، والمفاهيم والقناعات المترسبة التي تقبل بالأوضاع القائمة (الوعي الزائف) والتي تجسّد وتكرّس ظلمهم واستغلالهم. وكانت المشاركة في الاحتجاجات المدرسة التي ساهمت في حسم هذا الصراع، لترتقي بوعيها الى موقع التحدي لهذه الأفكار والقناعات والمشاركة الفعالة في العمل من اجل الإصلاح والتغيير.
وقد لعبت الأنشطة الثقافية التي ازدهرت في ساحات التظاهر من قبل مثقفين ثوريين عضويين، دوراً هاماً في بلورة وعي هذه الفئات وتحفيز مشاركتها في الأنشطة الاحتجاجية، لأنها تصدت للوعي الزائف الوهمي عبرالأنشطة المختلفة لتوضيح مسببات وجوده وتناقضاته مع الواقع الاجتماعي والاضطهاد المتنوع الذي يتعرض له المواطن العراقي، وتزويده بالقدرة على مواجهة التسويف والتزييف والتزلف والفكر الغيبي، الذي تبثه أدوات الطبقة المتسلطة الإعلامية ومنصاتها الالكترونية، بينما توجه قناصيها لقتل الناشطين وتفسح في المجال للعصابات والمافيات التي هي جزء منها او من خارجها، لقمع الاحتجاجات بسبب ما تشكله من خطر على مصالحها المادية وواردات النشاطات الاجرامية.
ومن طبيعة الاحتجاجات انها في حالة حركة دائمة بين مد وجزر، لا تتوقف بل تتطور و تنمو، لان أسباب ظهورها و استمراريتها ما زالت قائمة.