ثلاث نقاط أساسية جعلتني أتنفس بقوة وأنا متواصل بقراءة صفحات "رواية معلقة بلوشي"  لكاتبها وشارحها ومبدع دقائقها ومحدد غاياتها وضابط منهج احتراسها الروائي عبد الكريم العبيدي. النقاط الثلاث جعلتني وجهاً لوجه أمام دروس تاريخية، بينما كنتُ أسأل هذه النقاط عن فائدة ومضار التاريخ واستخدامه في البناء الروائي.

النقاط الثلاث واجهتني من خلال الجوال الهادئ في أروقة الرواية، منذ صفحتها الأولى حتى آخرها، للبحث عن التكنيك الروائي وتطوره خلال الاستطراد في محاولة وصول الكاتب الى عقل القارئ:

1 – من عاداتي -  الطيبة أو الرديئة لا أدري -  هي انني عندما أقرأ أي رواية أجد نفسي سائلا: هل الرواية، التي أمام عيني هي ميمنية الافكار او يساريتها..؟

لكن ما حدث هذا السؤال وأنا اقرأ رواية فيها الحديث عن "مكان" قاس وفيها الحدث عن "زمان" مرير. في المكان والزمان المعينين روائياً، تتقارب الأهواء وتتباعد بين الناس حالات الاستحياء بكثير من العناء. هذا أول أشياء الرواية العراقية المكتوبة بقلم العبيدي المتميزة باللايمينية ولا اليسارية.

2 – الرواية عنوانها:"كم أكره القرن العشرين – معلقة بلوشي" قام بتحرير أحاديثها وأحداثها عبد الكريم العبيدي بأربعمائة وأربعين صفحة من الحجم المتوسط، لا تقوم على وثائق قانونية ولا على مصادر ذات أصل تدويني،  إنما قامت على ذاكرة وأفكار شخص واحد – المؤلف - الجدير بالثقة الابداعية الشاملة. الروائي نفسه أوجد بقلمه ميزات القرن العشرين، حيث سادت فيه معتقدات علمية حققت للبشرية ما لم تحققه  خلال ملايين السنين من وجودها على الارض، الى جانب ذلك سادت معتقدات جامدة، لم يواجهها المؤلف بالمواعظ او النصائح. معنى هذا ان فن الرواية الحديثة هو المسيطر على جميع السطور في جميع الصفحات.

3 – لم يكن مؤلف الرواية يقوم بتأدية واجبات الروائي فحسب، انما كانت محاولاته في استنباط "الشعور الروائي" وسبر "الالهام الروائي"، هي محاولات مؤرخ - روائي يريد ان يحفظ لنا ولنفسه صفحة من مجريات بعض أمور التسلسل التاريخي العراقي، في القرن العشرين، من خلال أجيال متعاقبة بأسلوب قصصي  اغريقي – رواني،  كأنما المؤلف العبيدي أراد امتحان قدرته في الانتماء الى جوتة في فاوست أو الى هيرودوتس في كتاباته عن بلدان  القارة الاسيوية.

على أساس هذه النقاط الثلاث اتضح تاريخ البصرة كـ"مدينة" وتاريخ العراق كـ"دولة" من خلال بعض صفحات التاريخ في القرن العشرين المنطلقة من عالم السياسة لحكم الحزب الواحد، حزب البعث العربي الاشتراكي، بكل ما يحمل من شعارات تطبيقية معقدة في ممارساتها الدموية،  لا يسع التاريخ غير ادانتها روائياً،  مثلما الحال في طبيعة أعمال عبد الكريم العبيدي المتجسدة في أفعال ونتائج أفعال هذه الرواية وما سبقها من روايتين غنيتي المادة والقيمة، بفلسفتين بسطتا نفسيهما على الرواية العراقية، على اساس الواقع الملتبس بالتباس سيل الحوادث المتتابع في هذه المدينة وفي هذه الدولة. نبهتني الرواية كقارئ الى رؤى بليغة عن علاقة التاريخ بالفن الروائي، جعلتني اعتبر البحث في الموضوعية التاريخية المحايدة هي أولى عطاء العبيدي بروايته هذه.

يمكنني القول ان العبيدي فتح في الفن الروائي أبواباً جديدة باتجاهه نحو وجهة جديدة فيها غنى الموضوعات ولغتها القائمة على مفردات جريئة التكوين والترتيب والصياغة جعلت قارئها بين الايمان والشك بأحداث الرواية، بين المنقول والمعقول في الخيال والتصور. لعل هذه المحاولات تسجل أولويتها في الاثر اللغوي بالرواية العراقية لتقريب عقل القارئ الى مكانة الرواية.  

في رواية كم أكره القرن العشرين وجدت نوعا من بناء متشكل على صورة هرم وقاعدة فيهما ارادتان: أولاً: إرادة "أصلية" في قمة الهرم الروائي. ثانياً: إرادة "مصنوعة"  بصياغة فنية  في قاعدة الهرم العريضة.

الارادة الاصلية أوجدها الراوي عبد الكريم العبيدي. الارادة المصنوعة أوجدتها الاحداث الواقعية والروائية المتعاقبة أو المتعارضة.

الارادة الأصلية ارادة عامة، والارادة المصنوعة واقعية، لكنها ليست كلاسيكية فقد اقعدها المؤلف على "افادات" بعض أبطال الرواية وشخصياتها، سبقتها صفحات شهادات واعقبتها صفحات انتهاكات. الارادتان اجتمعتا لبناء قاعدة هرم روائي تشكل منها نتاج عملية سياسية – تاريخية، تحكمت بها حكومات متعاقبة، أمسكت بيديها قوة مسلحة  قادرة على قهر شعبها.

تناولت رواية "كم أكره القرن العشرين" موضوعات مختلفة، موضوعات ليست فلسفية لكنها واقعية قريبة من الفلسفة. فيها أحاديث وأفكار تزدهر بها عقول المتحدثين من أبطال الرواية عن قضايا الموت والحياة، عن الزمان والمكان، عن الفرد والمجموع، عن الحرب والسلم، عن القتل والغدر وعن معاناة المحكومين بالإعدام.

موضوعات عديدة يمكن القول ان بعضها متأثر بالفلسفة اليونانية وغيرها متأثر بالماركسية وآخر وجدته متأثراً بفلسفات ونظريات عديدة.. بعضها يختلف عن بعض وبعضها الاخر يتماهى مع بعض.. بعض أحداث الرواية حالات استثنائية غير متوقعة وبعضها ذات خواص استدراكية لكنها بالنتيجة رواية ذات طبيعة متجانسة، ليس فيها نقص الا في بعض مواقع تحتاج فيها بساطة التركيب، وليس فيها ضعف غير التأويل المساعد على فهم أجزاء الرواية بجميع "الموضوعات" غير المطروقة بسابق الفن الروائي العراقي، خاصة بمثل لغة العبيدي الممتعة وهي تحكي عن تجارب الناس العراقيين الاجتماعيين.

في كل موضوعة من موضوعات هذه الرواية نجد ارتباطا بموضوعة سابقة أو موضوعة لاحقة، مكونة ببراعة تامة أمثلة روائية نموذجية في الحدس اللغوي والتأويل الحاسم. بمعنى وجود تعداد موضوعي، تفصيلي، متحرر من التكرار غير الضروري أو غير المناسب، بل متناسب مع المعلومة الروائية ودلالتها.

في كل عناصر الزمان والمكان بالرواية يمكن مشاهدة الاتجاه في التنافس القائم، بين الغبطة الفردية والفساد الاخلاقي، بين الانحطاط والتدهور القيمي لدى المجموع أو الجموع.   يمكن قراءة أو مشاهدة الهم وسوء الفهم وانتظار الأحداث وانبعاثها بلغة الخطرات أو التخاطر أو بمؤشراتها في "القول والبيان"، كما في "شماريخ" الدفتر الثاني حين استخدم المؤلف بعض أوراق دفاتره المدوّنة على سطح الكاسيت، حيث يسمع فيه دعوة البطل لصديق من أصدقائه الى بار ماري،  لأنه المأوى الأكثر دفئا لمحبي السكر وتناول كؤوس المواساة لصديق مهزوم للتخفيف عن حزنه ومصيبته وآلامه.

في نظري أن عبد الكريم العبيدي في هذه الرواية بالذات قد أمسك بشيء من اختلاط أساليب الكتابة التجريبية من الفرنسي مارسيل بروست والكاتب الايرلندي جيمس جويس والكاتب المسرحي الايرلندي صموئيل بيكيت، محاولا الاستفادة من "العالمية" التي وصلها الفن الروائي. ربما كانت هذه الاستفادة متعمدة او مقصودة، وربما هي مجرد صدفة روائية حين وقع  "الخيال الروائي" عند عبد الكريم العبيدي في "كم أكره القرن العشرين" تحت فاعلية شكل من أشكال "التجريبية البديلة".. بمعنى تجربة الحياة السياسية اليومية بكثير من قوة الحدث ومتعة التعبير في ظل مخاطر الزنابير في مدينة البصرة وتحت ظل القصف المدفعي،  الذي طال شارعاً شعبياً مشهوراً بمنطقة العشار اسمه "شارع الوطني" وهو شارع لا يموت، كما أكد في شماريخه.

وجد المؤلف أن الوقت قد حان بعد روايتين كتبهما من قبل في القرن الحادي والعشرين، انه طاعن في كره قرن بكامله "القرن العشرين" الضارب زمانه في الحروب الداخلية والخارجية وفي ضروب القتل والاغتيال وتشريد ملايين الناس من وطنهم في مختلف انحاء العالم.

شيء مهم وصلت اليه الرواية هو أن موضوعاتها "متزاوجة" بين اللغة الشعبية واللغة الفلسفية. كُتبتْ بلغةٍ تعبر عن عقل خصيب وخيال خصيب وجمال خصيب ثم بإثارة خصيبة ومنزلة خصيبة في أعماق القارئ. ربما بعض القراء استمتعوا بالمفردات الغرائبية. وجدتُ المؤلف، هنا، على اعتقاد ان محاولات استخدام الكلام الغرائبي يمكن أي يعزز الجملة البلاغية أو الوصف البلاغي.

على العموم برهنت رواية "كم اكره القرن العشرين" على تجاوز الروائي العبيدي كل حاجة ليست طبيعية في تسلسلها، كي يساعد القارئ على رؤية حقيقة المجتمع العراقي، من خلال أحداث الرواية تتسلسل بسلاسة ووضوح ومن خلال موضوعة شعبية بصور شعبية وبلغة شعبية: الموضوعة شعبية لأن صياغتها واضحة، مؤثرة، ملائمة.

الصورة شعبية لأنها جميلة، قوية، مرتبة ترتيباً حسناً.

بصورة عامة يمكنني القول أن لغة الروائي العبيدي، هادئة بمعانيها، منطقها سليم وفكرها مستقيم بالرغم من وجود كلمات غرائبية في بعض صفحات الرواية لم تخلُ من الخفاء والصخب  باستعمالها. هذا يعني أن في الرواية تجانساً من نوع ما، تجانساً مشتركاً بين الابداع الحكائي والابداع التاريخي.

أوجد المؤلف تجانساً واقعياً بين "المنهج التاريخي" وبين "القاعدة الروائية"، بل يمكن القول انه جعل من التاريخ قصصاً ورواياتٍ يستخلص منها القارئ بعض جوانب الحياة بمدينة البصرة،  من خلال صفحات "معلقة بلوشي" لعدد من البلوش القادمين الى البصرة من ايران منذ زمان القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، هربا وخوفا من اضطهاد الحكومة الفارسية العنصرية، آنذاك، الواقع على سكان بلوشستان في انحاء الدولة الايرانية. بعض البلوش اتجهوا في الهروب نحو افغانستان، البعض الآخر هربوا الى البحرين أو عمان أو في بعض امارات عربية في الخليج. بعضهم عاش في البصرة وقد عملوا في بيوت أغنيائها خدماً أو في بعض مؤسسات القطاع الخاص عمالا وقتيين.

قدم العبيدي صورا متعددة واضحة عن واقع حياة الناس في مدينة البصرة، خاصة في المناطق القريبة جدا من حافة الحرب العراقية – الايرانية في تخوم مدينة التنومة وفي الشلامجة حيث تتصاعد روائح البارود والدخان والغبار.. قصف مدفعي عنيف، اطلاق نار متواصل،  قذائف تنفجر تباعا، سيارات تتطاير، اشلاء انسانية تتناثر وترتطم بأعالي النخيل، جنود يعْدون في اتجاهات شتى، صراخ وهتافات وحوارات صاخبة، فوضى عارمة غزت الشارع وما حوله وسيارات اسعاف محملة بالجرحى تمرق بسرعة متجهة صوب وحدات الميدان الطبية في منطقة التنومة.

كثير من الأفعال التاريخية تتحول الى رواية وكثير من الأعمال الروائية هي مثال حي من الانثروبولوجيا التاريخية. كتب عبد الكريم العبيدي  روايته "كم اكره القرن العشرين – معلقة بلوشي" فيها الكثير من أدب وفن، أوجدت اتصالاً تكاملياً بين معلقة البلوشي وبعض موضوعات التاريخ العراقي الراسخة بذهن العراقيين منذ أربعينات القرن العشرين،  حتى اليوم، ونحن   نقترب من عشرينات القرن الحادي والعشرين.  صحيح ان حركة أحداث الرواية كانت بطيئة، لكن أسلوب الإفادات تضمنتْ اعتبارات ذاتية من التأملات جعلت هذه الرواية شهادة بانورامية في ما حدث ويحدث في البلاد العراقية.

في آخر القول لا بد من الاعتراف أن هذه الرواية شكّلت اصطداماً مباشراً بالصيغ الروائية المباشرة متغلبة على  التقليدية بإحاطتها الرمزية الروائية بمنظار الواقعية الروائية، أي ان الروائي عبد الكريم العبيدي أفلح، تماما، في بناء هرم رصين لروايته على أسس مشتركة بين الواقعية والرومانتيكية والرمزية، تعبيراً عن مواصفات أبطال روايته من عناصر البورجوازية الصغيرة والطبقة الوسطى تؤيدها مبادئ الروائي – القاص – المسرحي – الكاتب السياسي الفرنسي اميل زولا وتؤيدها حداثة الوقائع العالمية.

أحسن العبيدي بتجربة تحريك شخصيات روايته  في مسافات ومساحات وأزمان الرواية،  جميعها  كانت تدور في دائرة أساليب اميل زولا القصصية  ساعدته، كثيراً، في عملية  بناء رواية درامية – وجدانية متفوقة، مستفيداً من طاقتهِ  الخفية لجعل القيم الروائية الخفية ومضات فعالة،  تبث الوعي في عقول القراء بسهولة وسعادة.

عرض مقالات: