في معرض تهيؤي لكتابة شيء يمكن أن يقال في هذه الجلسة المكرسة للاحتفاء بشاعر عدتُ إلى الشعر؛ إلى شعر صادق الصائغ، المحتفى به.

الكتابة عن الشعر، في بعض حالاتها، هي أقرب إلى كتابة الشعر نفسه؛ لا يمكنك كتابة ما تريد، إنك تكتب ما تستطيع كتابته بتعبير غير حرفي لبورخس.

الكتابة بمناسبة هي أيضاً تفرض تقاليدها على ما نكتب، ونحن هنا في مناسبة.

قبل هذه المناسبة كنت عازماً على الكتابة عن صادق الصائغ، عن صور كثيرة في بالي عن شعر الصائغ. إنه شعر متغير؛ مضطرب كما هي حياتنا، ومندفع كما نستمر نحن فيها، في حياتنا.

وصادق نفسه يجري أحياناً ضمن تيار، وستكون تسمية الجيل واحدة من تسميات مختلفة للتيار، فيما هو ينأى بنفسه أحياناً كثيرة عن التيار، عن الجري ضمن مجموع، مكتفيا بحياة خاصة. لكنه لا يستقر حتى وهو مع نفسه؛ يذهب إلى أقصى ما يكون عليه تجريب الأشكال مثلاً، ثم يؤوب محتفظاً بطبيعة منضبطة للقصيدة كما يألفها ويحبها هو.

شعر صادق الصائغ وثيق الصلة بحياة صادق وبصادق كما هو.

نستطيع فعلاً أن نكتب ما نحب، لكننا لا نستطيع كتابة ما نريد، هذا تحوير وتعارض مع تعبير بورخس الذي أوردناه قبل أسطر. في الشعر ليس كل ما نريده منه نحبُّه، التطلّع في الشعر هو غير الحب، هناك افتتان في الشعر لا يخفي حباً وراءه في أحيان كثيرة. ومن المهم للشاعر أن يكون مخلصاً لما يحب، منساقاً إليه لا إلى ما يريد. الجري وراء ما يريد، وراء ما يفتنه، مضيعة لكل شيء. لقد بقي صادق مخلصاً للشعر قدر إخلاص الشعر لصادق ولحياته المضطربة والمندفعة في اآن ذاته.

هذه بعض صور كثيرة تتداعى وتحضر كلما كنت في معرض التفكير بشعر صادق الصائع أو بمجال الاستعداد للكتابة عن هذا الشعر.

عرفت صادق الصائغ، كان هذا في منتصف السبعينيات.

فقد صادف آنذاك أن رأيت وتعرّفت على صادق الصائغ، وكان يومها نجماً، في الشعر، وفي النقد السينمائي، ونجماً أشد وضوحاً بحيويته وأناقته في الحياة البغدادية. كانت بغداد يومها هي أيضاً مضيئةً، تتنفس حياةً أخرى مترعة بالداندية والجمال. لقد كانت مدينةً تريد وتتهيأ لتثبَ إلى روحِ العصر. لكنها لم تثب.

اختفى صادق الصائغ مع مَن اختفوا عن المدينة، وبقيت بغداد تشحب وتضمحل، وتجفّ، وتعتم، ولم أرَ الصائغ لسنين وعقود ما كادت تنتهي إلا وقد تهاوت المدينة هرمة، متعبة، منهكةً. كنت مارّاً بالمصادفة في ساحة التحرير، وكان هذا في واحد من صباحات أواخر عام  2003 حين لاح لي صادق واقفاً تحت نصب الحرية، كأنه كان يهمّ بفعل شيء، غير أنه بدا حائراً، فحيّيته، وكان كلانا يعرف الآخر، لم تستمر عبارات التحية ما بيننا طويلاً، فليس بعيداً عنا كانت عبوة ناسفة قد انفجرت في الجانب الآخر من الساحة، كان صوت الانفجار مرعباً، وكنا سمعنا صرخة ذاوية محطَّمة لم تلبث حتى استحالت أنينا خافتاً، وكانت تلك صرخةً أخرى من صرخات أنهكت صدر بغداد حتى لم يعد يقوى عليها.

كانت بغداد مثخنةً بالجراح. ولم يكن أيٌّ منا، جميعنا نحن أهل بغداد، ليقوى على شيء، ليس لنا من يدٍ لتمتد إلى المدينة المحطمة بحرائقها وخرابها في ذلك الجحيم الذي أقتيدت إليه.

صمتنا وسط هول الفجيعة، وافترقنا ولكن على موعدٍ هذه المرة.

ما كان مهولاً ومفزعاً في ذلك العام بات في الأعوام التالية بعضاً مما هو يوميٌّ ومتوقع في حياة بغداد والبغداديين. لا أحسب أن مدينة على الأرض طالها من الجراح ما كان قد طال بغداد في محارقها التي ظلت بلا انقطاع.

بعد أعوام على ذلك اللقاء، وذكراه المفجعة، كنت أقرأ في صحيفة المدى قصيدة لصادق الصائغ، وكانت بعنوان (هنا بغداد).

مَن منا لا يحيله العنوان إلى ذكراه الإذاعية؟

كانت عبارة (هنا بغداد) دائماً برقاً طافياً في الأثير بأصوات مذيعين مختلفين، وكان ذلك البرق يريد أن يُدلّ المستمعين إلى مكان افتراضي لبغداد؛ إلى مكانها كصوت.

و(هنا بغداد) كانت صوتاً في قصيدة الصائغ، وكان الصائغ يريد بالصوت التذكير بالحياة؛ بغداد ما زالت حية، ما زال نبض فيها يُسمَع، وكان النبض وحده ما يدلّ على الحياة في (المدينة العجيبة التي ضُرِبَتْ بالقنابل وسُحِقَتْ تَحتَ الأقْدام كما تُسْحَقُ سَاعةٌ مُعَطَّلةْ).

ما كنّا نسمعه كحشرجات موت، كان صادق الصائغ، العائد بعد أكثر من عقدين إلى بغداد بحلم (العراق الجديد)، لا يريد أن يسمعه إلا على أنه دفق حياة، إشارات من جريح بأنه ما زال حياً.

(هنا بغداد) قصيدة حياة فيما هي قصيدة رثاء.

تتمركز إرادة الحياة في مقطع القصيدة الأول الذي يعود في الأخير، في خاتمة القصيدة، إنه (بيت القصيد)، بتعبير النقد العربي القديم، الذي يفرض نفسه كنتيجة كان الشاعر يتمناها أكثر مما هي نتيجة غير منطقية في الواقع. للشعر منطق آخر لا صلة له بمنطق كلامنا المألوف.

هذه المَدِيْنةُ عَجيبةٌ                             

ضُرِبَتْ بالقنابل

سُحِقَتْ تَحتَ الأقْدام

كما تُسْحَقُ سَاعةٌ مُعَطَّلةْ

لكنَّها

وكَما لَو وُلِدَتْ للتَّو

سُمِعَتْ تَحتَ الأنْقاض تَتِكُّ

وَتَتَحَسسُّ اوصَالَها المَفْقودة

ومن  بِيوتِها المُهَدَّمة

انطلَقَتْ نِداءاتٌ

أشبهُ بآمواجِ ضوءٍ مُتَكَسِّر

هُنا بَغداد....

هُنا بَغداد.

وما بين مستهل القصيدة وختامها تحضر صورُ من بغداد، إنها الصور الماكثة في ذاكرة المهاجر والتي يحتفظ بها من مدينته. يتحدث المهاجرون والمنفيون والمهجَّرون عن المدن، لكن ما يتحدثون به هي صورهم هم لا المدينة التي تتغير وتتبدل في أحوالها وتقلباتها وانكساراتها.

اندحار بغداد واحتراقها يستدعي تلك الصور والحالات التي تتزاحم في قصيدة (هنا بغداد). وبهذه الصور يريد الشاعر مقاومة الموت المستبد بالمدينة. لم يعد الشاعر إلى مدينته لتموت ما بين يديه. كلُّ صورة تريد أن تنهض بفعل إحيائي.هذه هي حيلة العائد إلى مدينته وهو يستعيد ذكرى من أطفال مدرسة المنصور ودكان الحلاق ومن نافذة جار قديم تحطم زجاجَها كرة الأطفال.

يتدفق سيل الذكريات من راديو قديم يأتي بصوت (حضيري أبو عزيز) حتى (مقهى المعقدين) و(عباس ابو الجون).

إنها صور حياة ضاجة بمرحها ومسراتها، حياة آفلة بوهجها بمواجهة انطفاء حياة وواقع آخر محطَّم بالتفجير والرصاص والحرائق.

تختفي الحرائق والتفجيرات من وقائع قصيدة (هنا بغداد)، لا أثر لها باندفاع حيوي لصورٍ مستعادة من حياة الماضي وتريد القصيدة اقناعنا بأنها صور الحاضر.

إنها وسيلة الشاعر لدرء الموت، وهي وسيلته الأخيرة لاستعادة بغداده، بغداد كما هي في وجدانه وذاكرته.

لم نستطع فعل شيء من أجل مستقبل بغداد فلنستعن من أجل حياتها بصور الماضي.

ما أتعس المفارقات التي تضعنا الحياة فيها. وما أبهى الشعر.

ــــــــــــ

نص الورقة التي قرئت في جلسة الاحتفاء بالشاعر صادق الصائغ التي نظمتها الجمعية العراقية لدعم الثقافة والاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق الاثنين الماضي.