يقول فيلسوف العرب الكندي” من أوجب الحق أن لا نذم من كان أحد أسباب منافعنا.. فإنهم وان قصروا عن بعض حق، فقد كانوا لنا أنسابا وشركاء فيما أفادونا من ثمار فكرهم، التي صارت إلينا سبلاً وآلات مؤدية إلى علم كثير مما قصروا عن نيل حقيقته”.
النقد حاجة إنسانية تولد المتعة من خلال البحث عن الأفضل. وهو نوعان: نقد علمي مبني على الحقائق الموضوعية، غايته نقد الأخطاء والنواقص بهدف تعديلها وتصحيحها وإزالة مسبباتها من خلال الاستناد الى مبادئ النقد الرئيسية، ومنها، نقد كلية الشيء ـ فكرة، شخص ـ حركة سياسية، نشاط سياسي أو اجتماعي ـ ومنها، التركيز على نقد موضوع الشيء وليس على تفاصيله، وخاصة عندما يتعلق بتجربة الأشخاص الأدبية والسياسية. ونوع آخر تشهيري يهدف إلى التسقيط والثأر والإزالة الكلية للآخر ـ فكرة، إنسان، جماعة ـ وينبع من التعصب، له أدواته المختلفة، تبدأ من القذف بالكلمة الجارحة وتنتهي بالتصفية الجسدية. لذا فإن رفض النقد الموضوعي، باعتباره نقيصة خسارة للعقلاء. فالإنسان يربح إذا أصغى إلى تقويم الآخرين لأفعاله وأقواله، ويخسر إذا سعى لترديد تقويمه الخاص.
إن احترام حرية النقد وحرية اختيار الآخرين وتنوع الآراء وحرية التعبير عنها هو أحد الشروط المهمة لآداب النقد. وهذا الاحترام يعني قبول الاختلاف بالتقويم والرأي الذي هو حاجة إنسانية لها أسبابها الموضوعية والذاتية، عللها أبو حيان التوحيدي فقال: مادام الناس على فطر كثيرة، وعادات حسنة وقبيحة، ومناشيء محمودة ومذمومة وملاحظات بعيدة وقريبة، فلا بد من الاختلاف على كل ما يختار ويجتذب”.
إن الادعاء باحتكار الحقيقة من قبل الناقد لا تتعلق فقط بوحدانية صحة فكرة معينة، بل باحتكار تقويم الفكرة ونشاط الأفراد لتنفيذها وتشويه تاريخهم، وهذا ما يتعارض مع آداب النقد وقيمه، التي تزداد الحاجة إلى الالتزام بها، خاصة لدى اختلاف وجهات النظر حول نقد التاريخ والحركات السياسية والأشخاص المساهمين بصنع تاريخها. ومن هذا المنطلق فإن اعتقاد الناقد بأنه يمتلك الحق بنقد التاريخ وسير الأشخاص حسب هواه يعتبر مصدر كل قمع.
النقد البناء، من أهم مبادئه الابتعاد عن التبرير، التجرد والموضوعية، والنزاهة الحوارية، الابتعاد عن الخلط بين شخصنة النقد لأنه في هذه الحالة يهدم الهيكل من خلال الثقوب التي ظهرت، فيصبح الهيكل هو الثقوب، كمن يخلط بتعمد بين الضحية والجلاد. والنقد الموضوعي لا يقوم على القدرة على “التعرية” بل القدرة على التصحيح، كما يقول لينين. النقد البناء يفترض تحمل المسؤولية الشخصية عن الأخطاء والابتعاد عن تصيد أخطاء الآخرين بهدف التخلص من المسؤولية الشخصية.
كما هو معروف أن المعايير الأخلاقية لها قيمة أصلية ترتبط بأصالة الإنسان، كقيم الحرية والعدالة والمساواة وحب الخير وغيرها من القيم، والالتزام بهذه المعايير في السلوك الفردي والاجتماعي، يرتبط بالبيئة التي يعيش فيها الإنسان، لذلك يتغير هذا الالتزام تبعا لتغير البيئة وهدف الإنسان في الحياة، فإذا كان الهدف سامياً تبقى المعايير الأخلاقية هي التي تحرك النشاط من أجل تحقيق الهدف السامي، بغض النظر عن طبيعة البيئة والظروف التي نتحرك فيها. فعلى سبيل المثال، نرى من يسعى إلى الكسب أو الشهرة، بأية وسيلة، لا يهمه الالتزام بالمعايير الأخلاقية، مهما زادت ثروته أو شهرته.
هذا من جهة ومن جهة أخرى، نلاحظ ارتباطا بين المعايير الأخلاقية والتفكير، فاذا كان الهدف من نشر مقال أو نقد تجربة نبيلاً فأن المعايير الأخلاقية تكون حاضرة في ذهن الكاتب والمفكر، فلا يشذ عنها مهما كانت “الحقائق” التي يملكها وغنى تجربته الشخصية، فنراه لا يلجأ إلى تشويه الحقائق او استخدامها في غير سياقها بهدف الثأر والانتقام سواء من تجربته الشخصية أو تجارب الآخرين، لذلك نرى الكاتب الذي يلتزم بالحد الادنى من المعايير الأخلاقية لا يبني رأيه او موقفه بناء على الشكوك القائمة على التخوين والتشهير، بل يستند موقفه النقدي على التسامح والموقف الإيجابي وإيجاد الأعذار لأخطاء الآخرين الناتجة عن العمل أو التفكير الخاطئ الذي أدى إلى اتخاذ موقف سياسي او اجتماعي مغاير لما يراه الكاتب او الباحث في تاريخ تجارب الحركات السياسية وكوادرها الذين قدموا تضحيات كبيرة أو صغيرة، ولكنهم اختاروا طريقاً آخر أو مختلفا بناء على تغيير قناعاتهم الفكرية والسياسية، لأن شرعية الأفكار التي نطرحها لا تبنى على مواقفنا وتجاربنا الشخصية بل تبنى على الحقائق الجمعية التي تضبط استخدامها المعايير الأخلاقية وليس المواقف الشخصية، لأن الحقائق لها قيم قائمة بذاتها، بينما المواقف الشخصية ترتبط بالذات والدفاع عنها بطريقة لا تخلو من الذاتية. هذا من جهة ومن جهة أخرى، فإن مشروعية النقد لا تقوم على ذبح الماضي وشخصياته بدم بارد، تحت ذريعة الرد على نقد الناقد.
إن الابتعاد عن المعايير الأخلاقية، تجعل الناقد يتخيل نفسه بأنه يمتلك الحقيقة الكلية التي من شأنها إذا باح بها أصبحت قادرة على التحكم بمسار التغيير الذي يتصوره، وفي هذه الحالة يصبح معيار العقل لديه تصوراته الشخصية، وليس حقائق الواقع بكل تلاوينه، وهنا يبتعد عن أهداف النقد فيصبح عنده وسيلة للدفاع عن ذاته وتجربته الشخصية بتعصب، وليس تغيير الواقع من خلال نقد سلبيات الماضي، فيتحول من شاهد على التاريخ إلى مزور له، وينطبق عليه قول المتنبي:

الظلم من شيم النفوس، فإن تجد
ذا عفةٍ، فلعله لا يظلم

إن من يمتلك الموضوعية، ينبغي ان يكون منصفا في نقد سيرة رفاق الدرب في مسيرة النضال الطويلة التي تستمر بالحياة، رغم الظروف القاحلة التي أكل حيتان الفساد فيها، ليس دولارات النفط فقط بل طعام الفقراء والمستضعفين، وأفسدوا الحرث والنسل، فلماذا يتم التواضع في نقد هؤلاء والغلو في جلد الذات بقسوة؟ ألا يستحق ذلك التساؤل عن الغيايات والأهداف حيث لا تكفي المشاعر النرجسية في أن يكونوا تحت الأضواء دائماً، حتى لو كانت ألوانها فاسدة، في تفسير دوافع هذا النقد؟
إن الالتزام بالمعايير الأخلاقية في النقد يؤدي إلى تقويم التجربة والاستفادة من الأخطاء التي وقعت فيها، والمساهمة الفعالة في اعادة بناء الذات الشخصية وكذلك اعادة بناء الحركات السياسية لتكون أكثر قرباً من الالتزام بالمعايير الأخلاقية، من خلال احترام التجارب الشخصية والجمعية وقبول الاختلاف بالآراء في الماضي والحاضر، وبذلك تتقلص الاختلافات الحادة في النظر للتاريخ والمصلحة المشتركة، أما الابتعاد عنها في النقد، أي المعايير الأخلاقية، فانه يؤدي إلى تشويه التجربة وعدم الاستفادة من أخطائها ونكران التضحيات التي قدمها من ساهم في صنع تاريخها ، مهما كانت صغيرة أو كبيرة.
ينبغي أن لا يضفي الناقد أحلامه النرجسية، وينطلق من امراضه وعقده النفسية في تفسيره للتاريخ ونقده بحجة الدفاع عن الحقيقة أو كشفها، فالحقيقة هنا غائبة عن ذهنه أو غطتها أحلامه النرجسية حين يدعي أمجادا ليست له ويمسح بجرة قلم ما بذله الآخرون من جهد لأنهم اختلفوا معه في الرأي والموقف يوم ما، فيعلق كل أخطائه على تاريخهم ناسياً أنه كان جزءًا من هذا التاريخ الذي كان محركاً له في وقت وقوع الأخطاء التي ينتقدها، ولن يعفى من المسؤولية إذا أدار ظهره لتاريخه، فأحداث التاريخ تبقى شاهدا على ما ارتكبه من أخطاء تم السكوت عنها في حينها بسبب موقعه القيادي والظروف المحيطة بالعمل الحزبي في حينها، فأخطاء هؤلاء ما زال رفاقهم يحفظونها عن ظهر قلب فلا يزيلها تغيير السفن التي يركبونها، فربانها يعرفهم جيدا ولولا تلك المعرفة لتركهم على قارعة الطريق.
وفيما يخص نقد تجارب الشخصيات التي رحلت عنا، ينبغي ان نتذكر القول المأثور: اذكروا حسنات موتاكم” وبناء على ذلك، ألا ينبغي ان نحترم تاريخ هؤلاء المناضلين، وان اختلفوا معنا في يوم ما، في موقف ما أو رأي ما، ونبتعد عن انتهاك خصوصيتهم، فكرامتهم والحفاظ على حرمتهم تبقى من مسؤولية الناقد باعتبارها أحد أهم المعايير الأخلاقية التي ينبغي ان يأخذها الناقد بنظر الاعتبار. ففي الوقت الذي يفتخر به الوطنيون بالتضحيات، من أجل الحرية والتقدم الاجتماعي، التي قدمها الراحلون عنا، يقوم البعض بنحرهم بالسكين وهم أموات، سواء تحت ذريعة النقد أو الرد على النقد.
إن ما نلاحظه اليوم من نقد لتجربة بعض الشخصيات والنقد المضاد، أرى أنه يدخل في باب الترويج للنقد الحاقد والتشهير الشخصي الذي لا يضر إلا صاحبه، وكما يقال ان الإناء ينضح بما فيه، فإن امتلأ بالمحبة والتسامح فانه ينفع الآخرين، أما إذا امتلأ بالحقد فإنه يفيض على صاحبه، فهذا الشكل من النقد يسّوق أفكاراً واهية لأنه ينطلق من تجربة شخصية وقناعات ذاتية، أزاء تجارب الآخرين.
وأخيرا، فالمشكلة ليست في النقد بل بتلوث النقد، الذي تسببه الملاسنة الجارحة وردود الفعل العنيفة التي كثيرا ما تميل إلى التشهير، كما قال ذات مرة الصديق عبد المنعم الأعسم. فالنقد قاطرة التطور على المستوى الشخصي والجمعي، وبدونه تسبح الأسماك في البراري القاحلة، ويبهت حب الجمال وتصبح الحياة، مثل الأشجار الموحشة بلا ثمار، كما يقال.
اشارة أولى: شاءت الصدف ان التقي بالعديد من الشخصيات الحزبية، بتوجهات وخبرات مختلفة وربما متعارضة، وأن أحاورها في أمور السياسة وتاريخ الحزب الشيوعي وسياساته. وعلى الرغم من إحساس بعض هذه الشخصيات بالمرارة من التعامل مع الرأي الأخر، فإنها غالباً ما حرصت على عدم شخصنة الأمور وعدم الانجرار وراء أي شيء يسيء للحزب وتاريخه وبطولاته.
اشارة ثانية: يقول الشاعر الراحل محمد سعيد الصكار: قبل ان يشهر عليّ “ الأبطال” سلاحهم، سأرتضي أن أعلن جبني حماية لما لدي من أشياء عزيزة هي رصيدي القديم والحديث، وهي ما انوي الحفاظ عليه بقية حياتي، ما استطعت. (ث. ج 261 1995 ص 162).
اشارة ثالثة: ان تاريخ الحزب الشيوعي العراقي، فيه كثير مما يفتخر ويعتز به، ليس من قبل الشيوعيين وأصدقائهم فحسب بل من قبل كل الوطنيين الشرفاء الذين تربوا على حب الوطن، لذلك فتاريخه لا يستحق ان ينقد بشكل بائس، يعبر عن تخشب روح الناقد، فتقويم تاريخه بموضوعية لا يتم بمقياس الشتم والثناء، فكلاهما ضار، لأن الأول، يهدم الهيكل على رؤوس بناته بلا رحمة، والثاني، يجمله ببريق الألوان الزاهية دون ان يرمم جدرانه التي أتعبتها السنون.
أخيراً الحزب أبقى وأن ذبلت بعض أوراقه، فالأشجار الحية تزهر من جديد من خلال النقد الذي يقترب من شعاع الحقيقة، وهو فقط، وليس النقد المتشنج القائم على النزعة الثأرية والضغائن والاحقاد الشخصية، الذي يضيء أنوار الذين ضحوا من أجل ان ينعم الآخرون بالكرامة والخبز والحرية ويعيد ابتسامتهم لتنور دجى الظلام الذي يحيط بالوطن والشعب بسبب تربع النخب الفاسدة على الثروة والسلطة بعد الاحتلال الأمريكي.

عرض مقالات: