رضا الاعرجي*

رحل بعدما ظل يحتضر منذ عام  1974 حين أُضطر الى وقف إصدار "الكلمة"، المجلة التي سقاها وهي بذرة بجهده وعرقه وماله الخاص حتى استوت شجرة باسقة..

كانت السلطة، وقد استتب لها الحال، تسعى الى احتواء جيل الأدباء الشباب المتحفز لتجعل منه خميرة عقائدية للأجيال الأدبية المقبلة، وكانت تراهن على "الكلمة" لتكون "الوعاء" الذي يجمعهم تحت رقابتها، لكن حميداً، وهو المطلع على أسرار السلطة وألغازها وأساليب تفكيرها، سارع إلى أنهاء اللعبة قبل أن تبدأ، فأن يتوقف عن إصدار المجلة أفضل من أن يستمر بيدقاً تحركه الأيدي من وراء ستار.

وللتذكير، كان إصدار مجلة "الطليعة الأدبية" البديل الذي سيقوم بالدور المطلوب..

في فترة الاحتضار تلك، كان يعاني من ضغوط ومضايقات في عمله بجريدة "الثورة" عقاباً على تمرده على قوانين اللعبة، وكان يهمس لي أنه يفكر في التقاعد لأن الاستقالة تعني احتجاجاً على السلطة وليس على الجريدة وحدها، وحين كنت أحاول اقناعه بالبقاء ريثما يجد حلاً، كان يرد بسخريته المعروفة: "ماكو فايدة.. اللي يفحص أعور..واللي يجيز أعمى".

والزملاء الذين كانوا يعملون في الجريدة وقتها يعرفون مغزى سخرية المطبعي.

ولكن كيف السبيل إلى التقاعد؟

ذهب يستشير الدكتور علي كمال مدير عام الصحة النفسية، وكانت تجمعه بهذا الطبيب الفلسطيني، الذي آثر الاستقرار في العراق، علاقة وثيقة نظرا لاهتماماته الأدبية، وكانت نصحيته أن يتقاعد لأسباب نفسية، لأنه لا يشكو من علة أو مرض.

إن قصة تقاعد المطبعي تستحق أن تروى لأنها عبارة عن كوميديا سوداء، وليس هناك من لا يحزن ويضحك في آن حين يكون بطل المسرحية في كامل قواه العقلية لكنه يدعي الجنون كي يحافظ على عقله.

والقصة باختصار أن حميد المطبعي ادعى الجنون ليحصل على التقاعد، وكان بودي أن انقلها كما أسرني بها بالتفصيل، وكيف عمد إلى ارتداء ملابس بالية وأسمال ليدخل المستشفى وبيده طاسة ملأى بالعملات النحاسية يوزعها على المراجعين يميناً وشمالاً.

هكذا استطاع حميد أن ينقذ نفسه، في حقية الأمر، لا أن يحصل على التقاعد..

على الأصدقاء الأعزاء الذين يتفجعون على رحيل المطبعي، ويأخذون على الحكومة عدم الاكتراث بحالته أن يتذكروا كيف أجبرته الظروف على أن يكون بائع "تكة" على الرصيف، تحت بصر الحكومة يوم ذاك وسمعها.

أدرك جيداً أن هذا الوقت وقت مكثف للحزن لا للتذكر، لكن حيال أخ كبير وصديق وزميل وابن مدينة واحدة بل ابن حي واحد، بل جار، لابد من التذكر وعدم الاكتفاء بكلمات الرثاء.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*من صفحته على فيسبوك