كافي لازم *

لم تكن وسائل الاعلام في تلك الفترة واسعة كما نراها اليوم، فهي على ضآلتها كانت حصرا لأخبار ونشاطات السلطة الحاكمة، ولهذا لم تكن لدينا وسائل متاحة لتخليد احتفال اليوبيل الفضي لتأسيس فرقة المسرح الفني الحديث. حقيقة ما جرى في ذلك اليوم لم يكن امرا عابرا، ففي تاريخ 3 نيسان 1977 تفاجأنا بهذا الكم من الجماهير الغفيرة لكي تشاركنا في هذا الاحتفالية الكبرى على تواضعها فقاعة المسرح تستوعب 300 كرسي فقط وقد افترش الآخرون ارضية الممرات الوسطية وزوايا القاعة، وقسم منهم تكدسوا ولامسوا خشبة المسرح، كذلك الامر في صالة الاستراحة والكافيتريا وكان ابو لويس "متعهد الكافيتريا" قد افرغ جميع العصائر والمأكولات التي بحوزته، وربما لا تصدقون عندما أقول لكم ان الشارع المحاذي للمسرح قد امتلأ ايضاً وكانت ادارة الفرقة في حيرة من امرها: "كيف يمكن اقناعهم بالمغادرة" وليس لدينا وسيلة اتصال فعالة لهذا التجمع الكبير، وما كان من الفنان الراحل خليل شوقي الا أن اعتلى واجهة المسرح المطلة على الشارع ليخاطبهم ويعتذر لعدم استيعاب القاعة ويرجو منهم المغادرة والحضور غدا مجاناً. فقالو له: اذهب يا استاذ نحن هنا محتفلون". وكان الفرح الغامر واضحا على وجوههم.

 حقيقةً إن فترة السبعينات من القرن الماضي علامة فارقة في تاريخ الشعب العراقي فقد ازدهرت الحركة الفكرية بكافة اشكالها. وان ما يميز هذه الحركة هو تفاعلها الصميمي مع حياة الناس والجماهير وبالتالي احدثت وعيا جماهيريا بأعلى المستويات.

وفي احد الايام زارنا مدير عام دائرة السينما والمسرح محمد سعيد الصحاف وقد شاهد تلك الليلة مسرحية "بغداد الازل بين الجد والهزل" اعداد واخراج الفنان الراحل قاسم محمد وكان منبهرا جدا بهذا العرض. ومضت أيام العرض فاذا به يأتي للمرة الثانية ليري العرض ويعلمنا انه تم اختيار المسرحية لتمثيل العراق في الاسبوع الثقافي العراقي في الجزائر والذي استمر خمسة وعشرين يوماً.

لماذا بغداد الازل؟

انتشرت في تلك الفترة فكرة ان هناك نوعا معينا من العرض المسرحي كان سائدا في عصر ما في التاريخ العربي وهو "مسرح الحكواتي" وتبنى ذلك المخرج المغربي الطيب الصديقي وكذلك المخرج العراقي قاسم محمد وكان بحق رائدا لهذا المنهج وقد قدم اعمالاً مثيرة اغنت الثقافة العربية واثارت جدلا واسعا في الاوساط الفنية والثقافية وكان قاسم محمد يجد في الحكواتي "القصخون" وسيلة مهمة لطرح كثير من الافكار والاحداث والتي لها علاقة بحياة الناس ان كانوا في الزمن الغابر او المعاصر، عندما يتجول الحكواتي في الاسواق والازقة او يجلس على مرتفع خشبي في مقهى يتجمع حوله رواد المقهى او عند حضرة الخليفة يروي حكايات شعبية باسلوب خطابي تمثيلي بتعبيرات بسيطة بقدر الامكان في الاداء وتضمينها بعض الرموز والاساطير باستخدام اسلوب فني ولغوي رفيع يبدأ الحكواتي بالحوار التالي: "يا اخاير الذخائر وبشائر العشائر عموا مساء وانعموا اصطباحا، يا سامعي الاكرم والاجل حكاية بغداد الازل بين الجد والهزل، حكاية لا تنتهي، حكاية لا تمل. اذ كتب في الكتب العداد البعاد، يا سادتي الامجاد فيما انا ببغداد، فاذا بخلق كثير وزمان مثير وحال عسير، اذ انتشر الصعاليك والتجار واللصوص والطفيليون.. وكان التجار يحيون في قصور ضاحكة ومجالس مشرقة مزدانة بالتماثيل والابواب المذهبة..." الى آخره من الحوار. والذي تجد فيه الترابط الجدلي بين احوال ذلك الزمان والزمن الحاضر فالصراع واحد على مر التاريخ وعلى هذا المسار استمر العرض في طرح الشخوص والاحداث وقد بذل المعد والمخرج جهودا مضنية في الاعتماد على مصادر تاريخية متنوعة.

تهيأت الفرقة للسفر الى الجزائر البيضاء وكان كادر المسرحية كبيرا، ممثلين وفنيين، وقد اعتمد مصمم الديكور الفنان التشكيلي الكبير كاظم حيدر على مادة الفلين "الستايروبور" لخفة وزنها وامكانية رسم اشكال عديدة متنوعة وبحجوم مختلفة.

وكان المهرجان العراقي في الجزائر يضم كافة الفنون بالاضافة الى فرقتنا كانت الفرقة القومية للفنون الشعبية وفرقة الانشاد وفنانون تشكيليون وكذلك مطربو الاذاعة والتلفزيون.

حقيقة كانت السفرة متعبة جدا حيث اننا لم نأخذ استراحة في مطار ما. على اية حال وصلنا الى العاصمة الجزائرية ليلا منهكين بالاضافة الى فارق التوقيت بين البلدين مع ذلك قلنا لا بأس سنخلد الى النوم والراحة في احد الفنادق لكننا تفاجأنا بقرار باننا لا بد ان نذهب حالا وفورا الى مدينة القسطنطينية بطائرة اخرى وسيكون العرض المسرحي غدا. ولكن كيف؟! في العراق استغرق نصب الديكور عشرة ايام بحده الادنى. اذن لا بد لنا ان نتكيف ونأخذ تمرينا واحد "جنرال بروفة" في اقل تقدير ومع ذلك كان عزمنا اكبر بان نقدم ما يليق بفرقتنا وبالمسرح العراقي. وفي الصباح الباكر ذهبنا الى المسرح وعمل الجميع روادا وشبابا لكن مدير المسرح الجزائري باغتنا بقرار منع دق اي مسمار على خشبة المسرح، اذن ما العمل؟ وكان الحل جاهزا عند الفنان الكبير كاظم حيدر وقرر ان ينصب الديكور معلقا بالحبال رغم ضخامته مع ان الوقت كان يداهمنا وقد اقتربت ساعة العرض وكان الديكور مبهرا وأجل حتى من العروض الاولى في بغداد وارتفعت الستارة والاصباغ تجف على الالواح وكان عرضا رائعا.. ولكن الجمهور كان قليلا والظاهر لم يكن هناك اي اعلام او دعاية للعرض فذهبت الى مدير القاعة وقلت له ما السبب قال كان وجودكم مفاجئا ولكن هل لديك اشرطة صوت لناظم الغزالي قلت نعم، وفي اليوم التالي بثت اغاني ناظم الغزالي من المسرح الى الشارع وامتلأت القاعة بالجمهور.

بعدها كان العرض في العاصمة الجزائرية وقد صمم الفنان كاظم حيدر ديكورا مغايرا تماما للعرض السابق وكان اروع واجمل وقد حضر العرض جمهور كبير من فنانين وكتاب ومثقفين عرب واذكر ان المخرج المصري سعد ادرش قال لنا: "انتم اقنعتموني بانه فعلا كان هناك مسرح عربي وبالوثائق في حين اني كنت لا اؤمن بذلك".

كثيرة هي المواقف والاحداث، بعدها عرضنا في مدينة وهران بثلاثة ايام بديكور آخر لهذا المبدع الكبير كاظم حيدر وكان حقيقة بطلا للعرض. فعندما تنظر الى الديكور تسبح في فضاءات عميقة من حكايات الف ليلة وليلة توحي باساطير كثيرة كما قال عنها الشعراء والصور حملت سحر الشرق في بغداد الازل بعد ان تم العرض في وهران طلب منا اهالي مدينة سيدي بالعباس ان نعرض في مدينتهم فذهبنا هذه المرة برا وكانت مدينة هادئة وديعة وايضا ديكور آخر جميل لكاظم حيدر، حقيقة على مدار تواجدنا في الجزائر كانت الصحافة والاعلام تتابع بشكل جيد العروض وقد تفاءل النقاد عربا وجزائريين وكتبوا الكثير وقد حازت المسرحية على احسن عرض مسرحي واحسن نص وافضل ديكور وافضل ممثل للفنان خليل شوقي في يوم المسرح العالمي في بغداد.

فاتنا ان نحتفل باليوبيل الذهبي لهذه الفرقة العريقة التي هي مفخرة للشعب العراقي مرت بدون ان يعلم احد، مع ذلك الا يجدر بنا ان نحتفل الآن ولو فوق الركام والنفايات في مسرح بغداد العتيق دفقا من الامل وبإرادة المخلصين لإنقاذها من الموت المحقق.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* عضو في فرقة المسرح الفني الحديث