قالت مارينا حين أشارت الى زيد "IT IS RUNNING" سألت أخي ماذا تقصد بهذا الترميز لأني لا أجد بين الأشياء الثابتة من يستطيع الركض وحتى أولئك الذين يمرون من أمامنا على درجة من الكياسة والهدوء وهم يخطون بأقدامهم صوب السلالم الكهربائية. قال: مارينا تقصد "ان الدنيا تركض". وتذكرت كم طوّت صفحاتها موتى بيد الله أو موتى بيديها وكم أغرت آخرين على الرحيل الإجباري. فقد شاهدت أحدهم وقد ألقى بنفسه من جسر الصرافية وآخر شنق نفسه بالمروحة الكهربائية وآخر أفرغ طلقات بندقيته برأسه الثمين وهلم جرا والدنيا تركض، لذلك بقيت أسفل السلم ممسكا بذراعه وعدت غير راغب في استكمال مشواري الذي في عقلي وبدأ فيضُ أسئلة من الشماتات يبوح بها وجداني عليّ من أن نزقي وصبيانيتي قد جعلاني لا أرى الدنيا وهي تركض وذهبت الى المرآة وحين تفرست بوجهي وتفرست بذكرياتي وجدت الدنيا تركض وأن ركضها أعلى من الدرجة التي أشارت إليه مارينا. هذا مارأيته على وجهي وما قرأته لي ذاكرتي فقد حملت لي بعضا من الأسماء وكلها من الذين يرزقون سواء كانوا في الدنيا أو في الآخرة أتذكر أن داخل حسن قد غنى في زواج أخي وأنني كنت أحضر الأعراس التي كان يغني بها سلمان المنكوب، وكذلك رأيت الغجريات وقد رمت واحدة منهن بفوطتها عليَّ وهربتُ من الحفل لأنها حجزتني مقدما وستجلس بين أحضاني وأنا بعد غض غرير. وأتذكر يوم حضر الزعيم في سينما الخيام لمشاهدة فيلم سينمائي عن جميلة بوحيرد وتحرير الجزائر، ويوم احترقت مستودعات البنزين قرب السدة الشرقية والفيضان وحضور الملك فيصل الثاني متطوعا لملء الأكياس بالرمل لإنقاذ العاصمة بغداد. وأتذكر حضوري مسرحية النخلة والجيران لغائب طعمة فرمان واستقبال صلاح خالص لي في مجلة الثقافة في أول شارع الرشيد ودعوته الكريمة لي فيها وكنت ما زلت بعد غضا غريرا بعد أن قرأ بدايات لي في جريدة الراصد. وأذكر أنني رأيت سعدي يوسف في اتحاد الأدباء واحترت كيف وبماذا أسلم عليه وارتبكت وكان الوقت مساء وقلت صباح الخير وهربت وصاح ورائي صباح النور صباح الشمس المشرقة ليلا. واستمعت لآخرين، قال جبرا إبراهيم جبرا سأذهب الليلة الى بيروت، وطه سالم أكملت "الطنطل" وعفيفة إسكندر "حركت الروح.. لمن فاركتهم" ورضا علي "سلم النه يريح الهاب سلم النه". وفي "الكرسي الهزاز" سألت عوني: هل أخبرك عريان لمن كتبها "وأضمك ضمة الخاطر للغياب.. وأنشدك من عطشتك ليش ما جيت؟.. تمنيتك تجي بكد ما تمنيت"...
وأتذكر عبد الرزاق عبد الواحد وكنت جالسا حين ألقى رائعته عن الجواهري "ذيالك الشامخ الزاهي بقمته – وكل يوم له عن قمة سفرُ" وفي منتدى الأدباء الشباب وفي أحد جلساته كان أيضاً جالسا بيننا يتحدث للشعراء عن قضايا الشعر وأنا أوشوش بأذن لهيب عبد الخالق. وحين لمحني ولمحها تبتسم قال انتهت الآن أسئلة الشعر. فأسرعت وقلت له "وداعتك أبو خالد كنت أشرح لها "فرد عود" لحسين نعمة" وضحك وتمتم "راد يكحله عماها". أما مَن دُفن في مقبرة الأرمن الكاثوليك في ساحة الطيران وأطلقوا إحدى وعشرين إطلاقة له فلم أتذكر اسمه. كانت الدنيا آنذاك ثابتة لا تركض وطيّعة تستطيع عربة العيد جرها. ثم بدأت الدنيا كما قالت مارينا لزيد بدأت بالركض، بالركض بالأحياء والأموات السابقين واللاحقين الذين ولدوا والذين سيولدون، وبالركض وبموقعي على الكمبيوتر وببارك السعدون وبدارنا القديمة في خان فليح ثم دارنا في الدور الحكومية. تصوروا قبل ثلاثين عاماً والعراق بلا بترول والدولة توزع الدور السكنية على الفقراء، بل وبدأت تركض بلقمة العيش وطاف الفقر والبؤس في محاجر الآباء والأبناء ولكن الدنيا لم تستطع أن تركض بالمحبة والتسامح والأخوة والإنسانية مابين الناس آنذاك. وبقي الأخ لأخيه والجار لجاره وقد امتدت وصية الله الى الجار العاشر والدنيا لم تركض بالهدوء والأمان وبالقلوب النظيفة. وكان المجتمع آنذاك معصوما من الزلة ومؤتمنا على لسانه وكان يختلف كل شيء فيه عن هذه الأيام والشهور والمناسبات والصداقات والمرأة والرجل والحدائق والشوارع. وأنا الى الآن ممسك بمقبض السلم الكهربائي وأقول لنفسي لن أصعد لن أدعها تأخذني من خلاله، سأجالس صديقتي الفلبينية في مكتب حجز التذاكر في الطابق الأرضي، نعم أريد أن أتمسك بالبقاء وسأطلب منها إلغاء تذكرة سفري الى دمشق كما سأترك سيارتي في موقفها وأعود الليلة الى داري مشيا على الأقدام وكلص محترف سآوي الى داري لا أريد أن أسمع بأن الدنيا تركض لأننا لم نضع بها شيئا سيتذكرنا عليه بخير مئات مثل زيدٍ يأتون بعدنا. أوقفوها لا تدعوها ترحل بسلبياتنا، بجشع السلطة وسطوة القتلة وماسوشية المسورين، بنفاق الدين لا تدعوا "العلاس" يرشدها الى المتبقي من الوجوه البيض والقلوب الوديعة. هكذا أخذني ألمي واشتغل بي على محركات المفاضلة وصراع الحضارات من أن تاريخا حديثا لنا لا تحترمه البشرية ولن يصدقوا بعد ذلك بأننا ورثة الصورة والكلمة ومن أرضنا بشر الله الإنسان بالخلود. لاتدعوها تسرع.. أوقفوها.

عرض مقالات: