تسعى البلاغة الجديدة الى تفكيك مركزية اللغة بصرامتها في اللعب الحر على ممكنات البلاغة التقليدية التي رافقت نشوء الخطاب الابداعي العربي والشعر منه تحديدا، فصرنا من خلال كشوفات الجهد البلاغي الجديد نتحدث عن بلاغات متعددة "بلاغة الصورة ، الجسد ، المكان...." اذ تم ترحيل المفاهيم البدائية للبلاغة الى سائر الفنون والآداب بما يضمن الكشف عن التأثير البلاغي المتشكل عبر الآليات الخاصة بهذا الفن او ذاك تحقيقا لجوهر التعبير المتجاوز للمألوف والمكتشف، وتعد بلاغة الواقع واحدة من الموجهات الابداعية الجديدة التي وجدت في حركية الحياة المتصفة بالغرائبية والاندهاش ما تغني عن البحث في البلاغة التقليدية المستهلكة للغة مجازا واستعارة وتشبيها وسواها من التقنيات البلاغية القديمة، اذ وجد المبدعون انفسهم قبالة حياة ووقائع تحقق التجاوز لكل ما هو سطحي ومتعارف عليه وما عليهم سوى اعادة تدوير هذه الوقائع ليحقق النص فعله الجمالي والمعرفي، وأحسب ان الوقت قد حان ليضع الشعر العراقي المعاصر بصمته الواضحة في تفاعله مع بلاغة الواقع العراقي المكتنز بكل ما يعد محفزا للإبداع الجديد، ومن هذه المنطقة سنقوم بمحاولة الكشف عن بلاغة الواقع من خلال قراءتنا النص الشعري "حي السماوات السبع" للشاعر حسام السراي.
يقع النص في مجموعة من النصوص وخمس استدراكات تمكنت من تحقيق الوحدة العضوية والموضوعية للنص الذي جعل حي السماوات السبع مكانا لتواتر النصوص المجسدة والعاكسة لحراك الواقعة الشعرية عبر حراك المخاطب "بضم الميم وفتح الطاء" اذ هيمنت الوظيفة الخطابية، الإفهامية على مساحة النص مع وجود الوظائف النصية الأخرى كالشعرية والمرجعية، اذن فنحن ازاء نص طويل استوعب تجربة الشاعر في رحلته الى نيويورك هذه المدينة التي يتوقف انبهار الشاعر بها وهو القادم من الشرق بعمارتها ونظامها وانما تعدى ذلك الى تحقيق مقارنات بينها وبين بغداد التي لم تفارق ذاكرته وتكوينه الشخصي والفكري والاجتماعي، فقد كانت حاضرة في كل تفصيل ضمته حركة الشاعر منذ وصوله مطار Kennedy E John.
ويشير العنوان الى "حي= سكني اسماه بـ "السماوات السبع" وعند التقدم في قراءة النص نعرف أن هذا الحي انما هو ناطحات السحاب المنتشرة في فضاء نيويورك، ولعل الاستبدال الاستعاري بين ناطحات السحاب والسماوات السبع قد اسهم في توسيع المساحة الدلالية لعلو هذه البنايات عن الأرض الى مستوى انفصال سكنة هذا الحي عن الأحياء الأرضية، ويترتب على هذا الاتساع الدلالي الكشف عن المشاعر المختلفة وطبيعة العيش في أحياء كهذه فضلا عن الدلالة اللفظية المحيلة الى ارتفاع هذه البنايات،
ليس هينا على الروح عبور ثمانية وثلاثين طابقا،
وليس سهلا على الجسد الاعتراف
ان لا تفاصيل عابرة لتروى،
فكل ما حولك يصاغ بانتظام...
وعلى الرغم من الدهشة التي أحدثها هذا "النظام" والطوابق العالية فإن الشاعر وهو يخاطب ذاته لا ينسى تفاصيل حياتية سابقة في بلده، ويقارن دائما بين المكانين، وبمعنى آخر فان النص يكشف عن احتفاظ الشاعر بعنصر المراقبة الواعية دون الاندهاش المحض بما يجري في هذا المكان الجديد الذي يبتعد عن المكان الأم بمسافات كبيرة حضارية واجتماعية ونفسية، فضلا عن اعتماده على عناصر دهشته في التمسك بتفاصيل الهوية التي كونتها مجريات الواقع وقوة ضغط المكان الأول الممتد عبر حياة الشاعر منذ الولادة.
التقاطعات العريضة تستفز رأسك،
ابصار الاغواء يهد مستوطنة الخرائب
في مدينتك المدورة. ..
وفي الوقت الذي يكشف فيه النص عن الانبهار والدهشة للدقة والنظام الحضاريين والهدوء الذي يكتنف هذه المدينة واحيائها السماوية تحضر الذاكرة :-
من البعيد الأبعد
أصوات أخشاب النعوش،
وهي تحج اليك من المستوطنة "العظيمة"،
تطفئ كل هذه المشاهد..
فالدهشة بالنظام والدقة التي لم يعرفها الشاعر سلفا والانبهار بالتقدم الحضاري والعلمي ينهار ويخفت ضوؤه حال حضور ما استقر في الذاكرة من صور بلاده البعيدة، وتشي هذه الرؤية الى عدم وجود امكانية الاندماج في نسيج المجتمع الجديد طالما ان مكونات الشخصية لاتزال مرتهنة بتفاصيل الهوية القديمة والانسجام معها، ولعل ايراد هذه الفوارق والمشاهد بين مكانين الاول "المدينة المدورة" والثاني نيو يورك، انما هي دلالة على عمق الأسى والوجع الانساني الذي يعاني منه ابناء البلد البعيد والذي صار من المكونات النفسية للفرد العراقي ومرافق له اينما حل ، وسيظل هذا الاحساس مرافقا لنصوص الكتاب كذلك استدراكاته، ويمكن ملاحظة ذلك في المقارنة بين ما نجم عنه تفجير برجي التجارة العالمي في ايلول 2001 وبين الانفجار الذي حصل في الكرادة تموز ،2016 الذي ذهب ضحيته العديد من الناس حرقا، ففي الاستدراك الثاني نقرأ:-
"بأسوده الوافد مثلك تهبط على رماد مركز التجارة العالمي، في ساعة كان فيها مجمع الليث البعيد حيا، المكان البغدادي الكرادي بعد آلاف الساعات في الـ 3 من تموز 2016، موديلاته الجديدة تفحمت، اتباعه فيه تحرقوا، ومن اشتريت منهم ال Coat , الاخوة الثلاثة مسعود وحسن ومصطفى، ماتوا ألف مرة وما استراح منهم الموت. .. فالنص الآنف الذكر يستحضر الحادثتين اللتين كان منفذهما ارهابيو القاعدة وما اشتق منها، فضلا عن حضور التجربة العراقية في كل تفصيل حياتي تعرف عليه الشاعر في نيويورك، ويتجذر الموقف الآنف الذكر في الاستدراك الخامس الذي يعلن فيه الشاعر براءته وصفاء دمه من كل الانتماءات والولاءات الطائفية التي اودت بحياة ابناء البلد وخرابه، "سلام على اعصابك وهي تضبط حكمتك المهشمة، سلام على دمك، مصفيا العروق من كريات ماتت منذ أن أفسدتها الانتماءات العمياء".
لقد ارتكزت نصوص الكتاب الشعري "حي السماوات السبع" للشاعر حسام السراي على معطيات الواقع العراقي الدامي الذي كشف فيه قدرة على تدوير ذلك الواقع محرضا مكوناته الغرائبية والمدهشة واعتمادها في بث بلاغة هذا الواقع في الافصاح عن مكنوناته الخارجية والداخلية واستبطان فواعل حركيته الجزلة والمؤثرة على مستوى امتلاكها حدود التجربة الشعرية.
وعلى مستوى بنائية النص فإن الاستفادة من خصائص قصيدة النثر قد بدت واضحة في تأثيث النصوص الجزئية التي توفر كل منها على تجربة خاصة -- الا انها تشكل في المحصلة النهائية نصا واحدا -- تكرس وضعا يتداخل فيه الـ "هنا" والـ "هناك" ، نيويورك وبغداد ليظل صوت الـ "هناك" ملحا بل واساسيا في تكريس انشداد التجربة الى الوطن المنتهك بكل اشكال الفزع والموت والضياع، مقارنة بالوجه الضاحك والمشرق للحياة في نيويورك، تلك الحياة التي لم تتمكن من وضع غشاوة أمام عيون الشاعر لينسى وطنه، فقد كان لتدفق الجمل النصية وحريتها في معالجة التجربة شعريا عبر النصوص والاستدراكات الخمسة التي شكلت وقفة استرجاعية للبنى المكونة لتفاصيل علاقة الشاعر بما يجري في وطنه وفي الوقت ذاته محاولة ناجحة لإبقاء المتلقي في منطقة المقارنة بين مكانين يجد في أحدها مكانه الذي ينتمي اليه ومكونا لذاكرته الفردية والجمعية،
لقد تمكن كتاب حسام السراي الشعري "حي السماوات السبع" من تفعيل تفاصيل الواقع بين مكانين حرص ان يؤكد انتماءه الكلي الى أحدهما وهو وطنه عبر خاصية تدوير الوقائع وزحزحة القشرة السطحية ليصل الى ما وراء هذه الوقائع ليكشف عن بلاغة وما يمكن أن يفصح هذا الواقع عن حركيته من خلال الحضور الشعري الذي تبدى في القدرة على انزياح هذا الواقع المنظور الى واقع آخر لا مرئي الا في هذه التجربة التي نجحت في اعادة تدوير الواقع لصالح الكشف عن بلاغته الداخلية التي سيمتد تأثيرها في ذاكرة المتلقي متخذة وضعا انسانيا شموليا مؤثرا في تشكل وعي المتلقي.