الحياة مسرحٌ عظيم، تختار طريقة تربيتنا مع البيئة المحيطة بنا الدور الذي سنظهر به على هذا المسرح، سنظهر مع الذين اختارهم لنا القدر ليشاركونا العيش، على هذا المسرح سنشاهد عدة ادوار تُعجبنا وأخرى قد لا تُعجبنا، يجب علينا أن نعلم ان بعض هذه الادوار لم تكن بمشيئة أصحابها، حتى وان رضوا عنها وكانوا سعداء بها، فهي كملامح وجوههم لم تكن لهم أدنى إرادة في اختيارها.
البعض الاخر، هم من الذين تمكنوا من اختيار بعض أدوارهم بعد ان لم يعجبهم دورهم في المنتصف الاول من أعمارهم، هؤلاء يجب ان نكُن لشجاعتهم كل الاحترام لأنهم رفضوا الواقع، فمن يرفض الواقع لا ينام ليلهُ مبكراً، هؤلاء لم يرتدوا ما اراد لهم اباؤهم ان يرتدوا، هؤلاء حققوا احلامهم وكانوا على مسرح الحياة بأدوارٍ حقيقية، يرون كل من كان كما كان ابوه "ممثلاً خاضعاً للنص المسرحي".
الحياة ليست إلا سنوات أما ان نعيشها أو نحيا بها، منذُ ان نولد و الى اخر يوماً كُتب لنا العيش او الحياة فيه، أو لآخر يومٍ نحن من يُقرر فيه بأنه سيكون اليوم الاخير، ومن هذه الأيام، نقضي سنين طوال لنتعلم ماهية الحياة أو لنتعلم كيف ان نتعلم منها، ونحن نشتري الدروس منها مقابل سنين العمر.
الرابح، هو الذي استطاع ان يكون ذكياً، هو الذي دفع أقل عدد من السنين مقابل الكثير من الدروس، فتراه نجح في حياته وحقق اهدافهُ جميعها او معظمها، أو على اقل تقدير فأنه سيكون متمتعاً بكل يوم من حياته.
أما الآخر، فهو الأقل ذكاءً و ربحاً، تراه دفع الكثير من السنين مقابل دروس اقل، تراهُ يتحدث بعقلٍ يتأخر عن عمره، وقد يتسبب ذلك بمعيشة صعبة إن لم يقف الحظ بجانبه، فتجدهُ يقتات على الصبر من اجل انتظار النهاية، اما إن وقف الحظ بجانبه مصطحباً الظروف الجيدة، فأنه سيقضي حياته كمثل الساعة الجدارية، منتظم السلوك، معدوم المجازفة ولا يوجد ضمن دوران عقارب ايامه ادنى إرادة.
أما عن ما تبقى من بشر فإنهم قد يكونوا اذكياء، ولكن دخلت عليهم ظروف قاهرة سرَقت سنوات حياتهم على غفلة دون ان يبدوا اعتراضهم، وقتها كان ليس بأيديهم ادنى ارادة لوجود عدة ظروف يصعب حصرها في بلاد العرب، فلم يتمكنوا من استثمار سنواتهم أو مقايضتها بالدروس بدل بالأيام.
من بديهيات العمر، عند معرفتنا شخصا ما “للوهلة الاولى” يخطُر لنا ما قد مر عليه من ظروف، أو كيف كانت حياته، مهما كان عمر هذا الشخص، فحتى الاطفال تنطق عيونهم عن حجم السعادة التي مرت وتَمُر بأيامهم وتفصح عن ما اذا كانت قليلة او كثيرة، وكذلك في عمر الصِبا والشباب والشيخوخة.
ان فراسة الانسان تمكنهُ من اكتشاف ذلك، فهو ليس بالهين على اي شخص، إلا لمن عاش حياته دون أن يرمش عقله عن التفكير، هو الذي يمتاز صوته بنبرة التعب، هو الذي سرقت الظروف السيئة منه سنين حياته دون ان يستغلها ضمن مراحل عمره، فتجده يعيش فترة من الزمن بأمُنيات الزمن الذي قبله، كأن يكون شاباً بلا طفولة، او أن يكون مُسنناً بأحلام الشباب، أو قد يكون هرماً على فراش العَجَز وينتابه أحساس القُبلة الاولى.. هو ذلك الانسان الذي ظل حالماً باليوم الجميل حتى قضى نَحبه على ارصفة التمني.
الحب والمال والخذلان .. هي من اهم الأحداث التي تطرأ على حياتنا فتحدث تغييراً ملموساً، الحب يحدث تغييراً في افكارنا، والمال يتسبب بالتغيير في سلوكياتنا. فالإنسان عندما يجد الحُب الحقيقي يشعر بأنه في غنى عن ما حوله، وأما اذا امتلك المال، فسيشعر بأنه أمتلك ما حوله.
أما الخذلان، فأنه يتسبب بندم عميق يؤثر سلباً على جميع العلاقات المحيطة بنا، فعندما يخذلنا شخص نحبه حد التَعلُق، تنكسر جميع الاواصر التي تربطنا به وتؤثر سلباً على من حولنا، وأن لم تنكسر، فهي حتماً ستصبح هزيلة ..
ان الانكسار بعد التَعلق صعب .. صعبٌ للغاية
صعب أن تنام عاري الروح، مغطى بالدمع
صعب أن تنام وعلى أهدابك قطرات من ندى الذكريات
سنجد حينها الصمت هو السائد في ايامنا
وانعدام الثقة حليفة أمنياتنا
وعُقم الذكريات قد أصاب احلامنا
تمنحنا الحياة عدة فرص تُعتَبر كمُنح، أو أنها تشبه جوائز بطاقات الحظ، هذه الفُرص تكون خارج نظرية المقايضة ما بين سنين العمر و دروس الحياة، فالحياة في بعض الاحيان تكون سخية بعض الشيء، منا من استغلها فتغيرت حياته، ومنا من لم ينتهزها فبقي على قيد الترجي.
ان هذه الفرص لا تبرح إلا ان تتسبب بالتغيير، فكل واحد منا مهما بلغ من العمر وقرأ هذه الأسطر إلا وخطر بباله ما منحت لهُ الحياة ذات يوم، حتى وان كانت فرصة واحدة، ولكننا نذكُرها، كل الذكرى نذكُرها، نَذكُر حجم التغيير الذي اصاب حياتنا آنذاك.
ولكن مقابل هذا السخاء يوجد لدى الحياة الظُلم الوفير، فمن حق حياتنا أن تخطف لون شعرنا ان ارادت، أو أن تطفئ بريق اعيُننا أو نضارة أجفانها، أو ان شاءت، ترسم بقلم الحرمان بعض التجاعيد بالقرب من اعيُننا.
نولد في هذه الحياة دون ادنى ارادة ، كما ينبع الماء من ثغرات الطبيعة، هي "الحياة" كما يشاء ان يسميها ابناء ميسوري الحال منذ ان وضعتهم امهاتهم على أسرة مرصعة بالذهب، لأن اباءهم يمتلكون زمام الفقر والغنى، لأن الحرمان لم يتطرق حتى لأحلامهم، لأنهم وجدوا شيئا من كل شيء.
اما البعض الاخر فقد لا يرضوا ان يطلقوا تسميه "الحياة" على حياتهم لأنهم على وجه الارض ليسوا بأحياء، وانما يمارسون العيش فقط … فثمة فرق بين أن تحيا وبين أن تعيش.
كل أنسان ولد على هذه الارض ولد بحسب ما تقتضيه ظروف ذويه، ولا مناص للحياد عن ذلك إلا بالشيء القليل، "القليل الكثير" فهو قليل على الواقع، كثير على الانسان، ذلك الانسان الذي انتصر على محيطه بقوى حقنته الايام بمصلها ذات ليلة، حين افترش العَوز ارضه، وتَوسد الارادة، وحلم بالحياة بدل العيش، حياة ابناء الذوات الذين شاهدهم على الضفة الثانية من محل سُكناه.
قديماً كان هناك مثل تايلندي يقول: "أذا كان اباك لصاً فلا تطمح ان تكون قاضياَ" فمن روى هذا المَثل كان مُلماً بكل أنواع الآلام التي تسببت لمن هم بعمر الورد، كان عالماً بمستقبلهم وبمحتواه قبل ان يكبروا، كان شاهداً على ضفاف الحياة الاثنتين "الرفاه والحرمان".
من بديهيات القدر ان يعرف الانسان مصيرهُ منذ طفولته وكيف ستكون نهايته، بحسب الظروف المحيطة به والمستوى المعيشي الذي حدد نوع الطعام الذي اعتاد على تناوله، الى أن تشاء تلك الفرصة التي ستضعه في قارب النصر ليُجذف بإرادته نحو احلامه، وينتقل "إن استطاع" من العيش الى الحياة، وهذا لمن كان ميسور الحظ فحسب.
أما من وقف حظه بالجنب لظروفهِ السيئة لمحاربته، فهنا يجب ان لا يجعل هذه الفرصة ان تجيء من تلقاء نفسها وانما يرغمها على ذلك لأنه اراد ان يكون، يكون الشيء الذي يفتخر به أمام المرآة حين يرى ابتسامته وهي تغمر عينيه قبل شفتيه، يرى ملامح وجهه وهي تُلَوح بإشارات النصر، ولكنهُ حتماً سيرى نُدبة الحرمان قد ظهرت في احد اركان وجهه، فهذه ضريبة الزمن التي لا تقبل الاستثناء، حتى لا ينسى ما مضى.
بعضنا يكبر والطفولة تعيش بداخله رغماً عنه، لأنه رأى الاطفال ذات يومٍ تلهو وتلعب على باحة بابه وهو لم يلعب معهم، لأنه ارتدى البسته القديمة في أيام الاعياد، لأنهُ كان يرى الاطفال في الاسواق تضجر من الدمى التي بأيديها وتتودد لأمهاتهم لشراء الأكبر منها، وهي بالنسبة لهُ أمنية تستحق التمني.
من أقسى أنواع الالم ان تشتري الدمى بعد فوات الأوان، أن تشتري العاب الاطفال وانت أكبر من عمر الطفولة ومن نعومتها، سيُصاحبك هذا الألم مهما كبرت، سيرافقك الى ارذل العمر، لكنك لن تستطيع أن تخبر أحداً عنه، إلا من كان رفيق روحك، فهذا الذي يشعر بصمتك سيشعر بحجم الألم الذي تقصده وأنت تتحدث عن الحرمان، ليس بإمكانك التحدث عن الحرمان أمام من لا يعرفه، فالحرمان احياناً قد يكون خدوش احساس، وليس بالضرورة أن يكون احتياج لشيء مادي.
أنا طفلةً لم تهتم بعدد السنين على كعكة عيد ميلادها
أنا صبيةً لم تهتم بثيابها ليلة العيد المجيد
أنا بنت تجاوزت عُمر المراهقة دون أن تَحِب
أنا شابة لم تَعرف رعشة الجسد عند اللمسة الأولى
أنا امرأة لم يخطر ببالها رجُل، وهي تضع أحمر الشفاه قبل خروجها.
أنا من يسود الصمت حديثها، أنا من تبتسم لأجل أن تجامل من حولها، أنا ليل ممطر مر على يتامى بلا مأوى، أنا بحر بلا موج، كُتب عليه ان يشاهد من حوله وان يسمع صوت من يجلس على شواطئه دون ان يحرك ساكناً، أنا التي اشترت الدمى بعد فوات الطفولة، انا عُمر من التعب.
أنا من يمضي يومها شبيهاً بالذي قبله، مُعطياً صورةً واضحةً لليوم الذي بعده، ويتجدد الامل عند كل مساء، بأن حالي سيتغير وانني سأحب حياتي، سأحيا بها لا لأعيشها … والعمر يمضي ..
رغم قلة الفرح، كُنت عند غروب الشمس اهمس في داخلي عن ما اتمناه، حتى تتطفل على احلامي ذكريات يصَعبُ نسيانها، أجمعها وانا اجدل شعري، ثم ارميها مع جدائلي خلف ظهري لأتناساها.
في كل ليلة اذهب الى فراشي دون ادنى شعور بالنُعاس، دون ان يغريني الليل ببعض النوم، اجلس على فراشي وبالقرب مني نافذةٌ تطُل على الامل، تَطُل على الحياة، تلك الحياة التي لطالما تمنياتها.
أحياناً، وانا جالسة افتح بيدي جُزءا من الستارة لأرى القمر، أراه كل يوم واتابع اشكاله، أنظر كل ليلة بصمت او أكاد ان اصمت، لما في داخلي من كلام تقشعُر له اوراق الشجر في شهر نيسان، لما في داخلي من غزل، أريدُ قولهُ بشفاهٍ ترتَعش حُباً، إلا انني اتوسل النسيان كي تغفو اجفاني، حتى يمُر الليل الذي أخشى صباحهُ، لأنني سأستيقظ فيه وأجد عمري قد اصبح اكبر، أنا انام ليلي و لي من العُمر ثلاثون عاماً من التمني.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
* صدرت الرواية حديثا في بغداد