كتب الشاعر الانكليزي الشهير وليام شكسبير مسرحية "الامير هاملت" بين عامي 1600 و1602، ويعتبر بعض النقاد الكبار أنّ هذه المسرحية التراجيدية وهي من كلاسيكيات الادب العالمي من اهم ما انتجه العقل البشري المبدع في مجال الغوص في اعماق الانسان واكتشاف اسراره وتناقضاته ارتباطا بنمط الحياة التي يعيشها. وعلى الرغم من المسافة الزمنية الطويلة التي تفصلنا عن شكسبير، الاّ انّ "هاملت" تحررت من هيمنة الزمان وتفاصيل المكان وظلت الاكثر حضورا على المنصات في العالم من شماله الى جنوبه ومن غربه الى شرقه، كما ان عبقرية شكسبير نجحت في ان تجعل المسرحية تسحر وتتألق في كل الازمنة، فهي وعلى الرغم من اختلاف المعالجات الاخراجية الكثيرة الاّ انّ المسرحية تميزت بقدرتها على ارتداء حلة معاصرة دائما.
نالت المسرحية اقبالا كبيرا من قبل جمهور هذا الصنف الادبي "المسرح"، كما كانت محط اهتمام كبار النقاد والشعراء والمفكرين في العالم، فجوتة وشيللر وجون ويلسون ونيتشة وفرويد وآراغون وغيرهم الكثير تحدثوا عن هاملت صاحب الموقف القوي والايمان العميق والعبقري في عقله وتفكيره والمدرك لواقعه والعارف بمشاكله، كما تحدثوا عن نقاط ضعفه وتردده، وعن موته الفلسفي والاخلاقي. وبالرغم من اختلاف الآراء والتحليلات الكثيرة، ألا انّ الجميع يتفق على انّ ذروة براعة شكسبير كانت قد تجسدت في هذه المسرحية التي شغلت الجميع واصبح لها مكان مميز في التراث المسرحي العالمي.
لم يخرج شكسبير من النمط السائد للتراجيديا آنذاك حيث يتحتم ان يكون البطل حاكما او نبيلا والموضوع يعالج امور الدولة والنهاية يجب ان تكون غير سعيدة، الا انه لم يتبع مسار الاحداث في القصة الحقيقية، وانما اضاف اليها الكثير من خياله العقلاني وتأملاته العميقة وغيّر في شكل المادة بما يعطي القصة ميزة مأساوية تجعلها اكثر عمقا وتأثيرا ويمنح الحوار الطويل ابعادا فلسفية وسيكولوجية مؤلمة. كما استطاع وبالرغم من الاحداث الكثيرة المتفرعة والمتداخلة مع بعضها ان يخرج احيانا عن القاعدة الأرسطية التي تقوم على الحدث، فركّز على شخصية هاملت ومناجاته المتعددة وحبك المشاهد الثانوية في القضية الرئيسة بطريقة بارعة لبناء درامي رائع ومتماسك. لكن عمله هذا لا يخلو من الالتباس والغموض الذي فرض التوقف والتأويل والتنظيرات لدى العديد من النقاد وعلماء النفس.
يُعتبر كتاب "فن الشعر" لأرسطو المرجع الاساسي للفكر المسرحي على مرّ الوقت، معتبرا ان الفنون جميعها تستند الى المحاكاة، لكنها تختلف في وسيلة المحاكاة وموضوع المحاكاة وطريقة المحاكاة، وعلى الرغم من انه ارسى مفاهيما اساسية للتراجيديا باعتبارها "محاكاة لفعل مهم"، الاّ انّ الدراما في ما بعد اخذت تتطور وتأخذ اشكالا فنية جديدة وفقا لروح العصر وفلسفته الاجتماعية، لذلك نرى انّ شكسبير لم يكتب "هاملت" طبقا لمواصفات وقوانين ارسطو فقط، وانما خضع لتأثير ثلاثة قوى اساسية في عمله المسرحي وهي التقاليد الفنية للدراما في العصور الوسطى والمسرح الكلاسيكي بعد عصر النهضة وروح العصر الذي يعيشه فنشأ اثر ذلك "مسرح شكسبير".
عبر شكسبير في مسرحية "الامير هاملت" وعلى لسان بطلها الذي وصل الى قمة العذاب تعبيرا عنيفا كرد فعل منطقي وحقيقي على عبث الحياة ووهمها من خلال معرفته بالظلم الاجتماعي المتعدد الأوجه في زمن العصور الوسطى وادانته القاطعة لهذا الظلم، فهو لا يتحدث عن مأساة شخص محدد بل كان موضوعه هو الانسان في صراعه مع ذاته اولا ومع وجوده ثانيا، ففي داخل كل مجتمع وداخل كل انسان يوجد هاملت!، وبذلك يظهر شكسبير بصاحب الرؤيا العميقة للحياة والقادر على الابتكار والاضافة والتأمل بكثير من الدقة والمهارة.
تدور الاحداث في القصة حول شخصية احد امراء مملكة الدنمارك وهو الامير هاملت الذي اصيب بصدمة عنيفة جراء مقتل ابيه حتى ظنّ الناس بأنه مجنون او تظاهر بالجنون، لكنّ المؤامرة التي حاكها عمه للاستيلاء على العرش والزواج من امه بعد مقتل ابيه، جعلت هاملت يغرق في حزن شديد لا مثيل له، وهذه المأساة قادته الى ان يتحول الى شخص عبثي وساخر ولا يبالي بما يجري امامه من افعال وكأنّ الاشياء المتعارضة "الحلوة والمرة" قد تساوت عنده الى درجة بأنه طلب من حبيبته اوفيليا التي كان يحبها حبا جما ان تذهب الى الدير وتتطهر من الخطيئة! فهو يعتبر ما فعلته امه من الفواحش والآثام التي لا يمكن ان تغتفر.
اتسمت شخصية هاملت بالإبهار والروعة، وخاصة في مناجاته لنفسه "المونولوج" التي من اشهر عباراته هو السؤال البليغ "اكون او لا اكون"، الذي يعبر فيه عن مأزقه الخطير وقلقه الشديد الذي يجتاح روحه وتفكيره، فهو امام خيارين فأما الانتقام من عمه كلوديوس او الانتحار، لكن تردده وعدم قدرته على اتخاذ قرار هو النقطة التي حيرت الكثير من النقاد، فهاملت البطل الذي توفرت له فرص كثيرة ان يحسم امره اراد له شكسبير ان يكون نموذجا لحالة من حالات المواجهة بين الفرد والمجتمع، وهنا تكمن قدرة شكسبير الابداعية في ان يجعل الحكاية تُستعاد في كل زمان واي مكان، فهذا النص المليء بالتناقضات والذي يتآلف فيه الموت والضحك "كما في حالة حفار القبور" يعكس طبيعة الحياة القائمة على الغش والخديعة آنذاك والتي اشتد فيها الصراع بين اخلاقيات مجتمع العصور الوسطى وقيم عصر النهضة وهذا الصراع حمله هاملت في داخله مما شلّ حركته ومنعه من القيام بفعل اي شيء كما ذهب بعض النقاد.
لقد "خلّد هاملت شكسبير وخلّد شكسبير هاملت"، فهذه الشخصية كما يصفها استاذ الادب البولندي جون كوت "اشبه بإسفنجة من شأنها ان تتشرب كل مشاكل عصرنا". ومن هنا نستطيع القول، بأنّ شكسبير لا يزال جديدا بل هو يتجدد من يوم الى يوم، وانّ كلّ ما قيل عن مسرحية "الامير هاملت" على لسان النقاد والمفكرين والمختصين بالمسرح لا يمكن ان يكون كافيا للإجابة على السؤال: لماذا هاملت؟.

عرض مقالات: