لندن- عدنان حسين أحمد

تتميّز الفنانة التشكيلية الأردنية روان العدوان بحسّاسيّة مُرهفة تؤهلها كما الشعراء المبدعين لرؤية ما لا يراه الآخرون. فحينما عملت في المُتحف الأردني بعَمّان وقع بصرها على كتاب نفيس عن النقوش والرسوم الصفائيSafaitic Inscriptions  فقررت قراءته، وتمثّله، وإطالة النظر فيه. فهذه النقوش تعود إلى الصفائيين أو الصفويين، نسبة إلى مدينة الصفاوي الواقعة شمال شرقي الأردن والتي تحمل اسمهم حتى اليوم، وهم قبائل عربية بدوية خالصة عاشت في تلك المضارب بين القرن الأول والرابع قبل الميلاد. 

لم تكتفِ روان بمشاهدة هذه النقوش والرسوم الصخرية وإنما قررت الذهاب إلى تلك الأمكنة التي تشبه مُتحفًا مكشوفًا في العراء وتستوحي من رسومه "البدائية"، ونقوشه اللغوية التي تطورت عن الخط السبئي. لا تنطوي كلمة "البدائية" على معنىً سلبي، وما نقصده هنا بالتحديد هو طريقة الحياة البسيطة القريبة من الطبيعة، وأنّ قيمها الفنية توازي قيم العالم الراهن، وربما تتفوق عليه في بعض الأحيان.

تعلّقت روان بتلك الرسوم الصخرية فقررت إحياءها من جديد على الكانفاس هذه المرة ملونةً إياها بما يتناسب وطبيعة الثيمة المُجسّدة على السطح التصويري. أنجزت روان أكثر من 40 لوحة فنية استوحتها جميعًا من الرسوم الصخرية الصفائية ونفّذتها بأحجام مختلفة بالأكر يلك على الكانفاس أو الألواح الخشبية. وبما أن هذا المشروع الفني ينطوي على غَيرة وطنية واضحة على منجزات الماضي التليد التي استوحت منها روان أعمالها الفنية الجديدة فقد قرّر الأستاذ مازن حمود، السفير الأردني بلندن استضافة معرضها الشخصي في منزله، وهي من دون شك التفاتة ثقافية رائعة، أتاحت للكثيرين عربًا وأجانب سانحة الحظ لمشاهدة 14 لوحة فنية انضوت تحت عنوان "لآلئ الصحراء"، وهي بالفعل لآلئ نادرة أعادت روان تكوينها من جديد وبعضها يذكِّرنا بلوحات أنطوني تابيس أوروبيًا، وشاكر حسن آل سعيد عراقيًا أو عربيًا.

قبل أن نلج في ثيمات المعرض وتفاصيله الدقيقة لابد من الإشارة إلى أنّ الفن الصخري Rock Art ينقسم إلى أربعة أقسام رئيسة  لكن ما يهمنا منها الآن قدر تعلّق الأمر بدراستنا النقدية هو الرسم التصويري Pictograph، والنحت الغائر Petroglyph ، أما الـ Petroforms   وهي الصخور التي توضع في أشكال وأنماط محددة من قِبل الإنسان والـ  Geoglyph وهي الرسومات الأرضية التي تتشكّل بواسطة تراكم الحصى والأحجار الصغيرة على هيأة نمط معين على سطح الأرض، فهذان القسمان الأخيران يقعان خارج اهتمام هذه الدراسة النقدية التي تركز على الرسم التصويري والنحت الغائر للأعمال الفنية الصفائية التي استوحت منها روان العدوان لآلئها الجديدة التي تحمل من روحها الشيء الكثير مثل التكوينات المدروسة التي توحي بالقوة، والتوازن والتماسك، والتدرّجات اللونية التي تشير إلى براعة الفنانة في استعمال الفرشاة، واستقدام العمل من أعماق التاريخ، والتلاقح معه برؤية إبداعية معاصرة تثبت لنا بالدليل القاطع أننا نقف أمام لوحات فنية مهجّنة ولافتة للأنظار.

تهيمن على الرسومات والنقوش الصخرية الصفائية الأشكال البشرية والحيوانية فلا غرابة في أن نرى الإنسان البدوي الصفائي بهيأة فارس أو راعٍ أو صيّادٍ أو عاشقٍ، أو رجل دين وما إلى ذلك من دون أن ننسى حضور المرأة في كل شيء تقريبًا بما في ذلك قيامها بالرسم والنقش والكتابة لأن الأبحاث العلمية أثبتت أن بعضها يعود لنساء مبدعات أسهمنَ في الحياة الثقافية والفنية والفكرية للمجتمع الصفائي المعاصر لمملكة الأنباط. ولعل أولى الرسومات التي استلهمتها روان هي الجَمل وأطلقت عليها التوصيف الشائع "سفينة الصحراء" ورسمته بطريقة تشخيصية لا تخلو من بعض التجريد لمعالم الوجه والسنام والقوائم الأربع، وخلفها فيكَر إنساني قد يمثل الراعي أو المالك لهذا الحيوان الأثير في الصحراء المترامية الأطراف. وما بين الراعي وجَمَله ثمة حروف صفائية تحيلنا إلى تلك الحقبة الزمنية البعيدة نسبيًا. نفّذت روان هذه اللوحة بالأكريلك على كانفاس بقياس 90 × 60 سم، ولعل جَمال هذه اللوحة يتعزّز كلما تأملنا خلفيتها التي تُرجعنا إلى الوراء زمكانيًا، وتُعيدنا إلى الوقت الراهن أيضًا. ثمة لوحة أسمتها روان بـ "الحُلم" وهي تنويع على الجَمل المُحاط بعدد من الفيكَرات البشرية، والنقوش الصفائية المُزدانة بالألوان المبهرجة التي تتلألأ تحت خيوط الشمس الساطعة. تمتدّ هذه البهرجة اللونية المقصودة إلى لوحة "أمل" التي تكشف هي الأخرى عن أعماق الفنانة روان العدوان وهي تُضفي من عندياتها الشيء الكثير على الرسوم الصفائية التي أحبّتها إلى درجة التماهي وخلقت منها في خاتمة المطاف تُحفًا فنية لابد من الانتباه لقيمتها الإبداعية. فلوحة مثل "تناغم" التي تحتفي بالجِمال أيضًا تبيّن بما لا يدع مجالاً للشك أن الفنانة تعوّل على متانة التكوين، وجرأة الخطوط اللونية المرسومة بالفرشاة أو بأي أداة أخرى تطوِّعها لتنفيذ عملها الفني بعدة طبقات تمنح اللوحة جَمالاً وغموضًا مُستحَبَّين.  وربما يتكرر هذا الأمر في لوحات أخر مثل "الصيادون" و "العائلة" و "بلا عنوان" التي نلمح فيها نوعًا من التوازن بين مثلث الشكل والمضمون واللون دون أن ننسى النقوش الصفائية التي تمنح اللوحات جميعًا أبعادًا رمزية لعلها تتوازى مع رمزية الطقوس التي كانت سائدة آنذاك.

تأخذ الحيوانات حصة الأسد في هذا المعرض أو في الرسوم الصخرية عمومًا فيمكن أن نرى الجِمال، والخيول، والأسود، والفهود، والثيران، والظباء، والثعالب، والكلاب، والنَعَام، والصقور وغيرها من الحيوانات لكن روان العدوان اختارت الصور المُعبِّرة والقريبة إلى النفس وربما تكون لوحة "عراك" هي الأجمل من ناحية الثيمة السائدة، والخطوط البسيطة، والألوان الجذّابة، إضافة إلى النقوش الصفائية التي تهيمن على خلفية الصورة المُنفَّذة بنَفَس تعبيري عميق، وبجرأة لونية تُحسَد عليها حقًا.

لا يمكن تفكيك هذه الأعمال الفنية المستوحاة من الرسوم الصفائية دون العودة إلى الجوانب الرمزية التي كانت تتوافر عليها هذه القبائل البدوية وأهمها الطقوس والشعائر الدينية التي كانت شائعة في ذلك الوقت. ولعل الجوانب الثقافية والفكرية والروحية تُعين الباحثين والدارسين على فهم واستغوار تلك الطقوس والموروثات الاجتماعية التي تناقلوها كابرًا عن كابر. فلا غرابة أن تستعصي بعض الرسوم الصخرية على التأويل لانطوائها على العديد من الرموز الشائكة التي لا يمكن حلّها وتطويعها إلى بعد جهود شاقّة ومضنية. ولعل لوحة "إله الحرب" هي خير نموذج لما نذهب إليه، ولا تخرج عن هذا السياق لوحتا "الرمز المفقود" و "تكوين"، وربما تكون هذه الأخيرة بمستوى عمل أي فنان أوروبي منغمس في التجريد والرمزية، ومنهمك في خلق الغلالة الغامضة التي تمنح اللوحة عمقًا لا يتكشّف بسهولة إلاّ أمام المتلقي العارف والمتذوق الذي يمتلك خبرة بصرية تتيح له إمكانية الوقوف أمام اللوحات الإشكالية والتحاور معها من دون الاستعانة بأحد أو اللجوء إلى أية وسائل سمعيّة توضيحية.

يُخطئ منْ يظن أن لوحة "أثر" قياس 90 × 60سم المنفَّذة بالأكريلك ومواد أخرى على الكانفاس هي قريبة من رسوم الأطفال على الرغم من عظمة مخيلاتهم المجنّحة، وجرأتهم الأدائية في رسم الفيكَرات، وحريتهم في اختيار الموضوعات التي تُشغل أذهانهم، ولعل الفرق الوحيد الذي يميّز لوحة "أثر" عن غيرها من رسوم الأطفال هو هندستها المدروسة التي تشدّ الانتباه إلى الفيكَرات الستة الإنسانية والحيوانية قبل أن تسرقنا الرموز والإشارات التي تطوِّق هذا التكوين الجذاب المنفّذ بالأسود والأبيض في الجزء الأكبر منه قبل أن تتسلل إليه ثلاثة ألوان رئيسة وهي الأزرق، والأوكر، والفيروزي التي تناغمت جميعها بشكل إيقاعي غريب مع متن اللوحة المرسومة باللون الأبيض على خلفية سوداء.

لم يكن تحقيق هذه التجربة التي بلغت أكثر من أربعين لوحة فنية بالعمل اليسير، فلقد تحمّلت روان عناء السفر إلى مدينة "الصفاوي" غير مرة، وتسللت عبر طرقها النيسمية الوعرة إلى الأمكنة التي عاش فيها الصفاويون الأوائل كي تصور فيلمها الوثائقي القصير الذي يحمل اسم المعرض ذاته، وتلك قصة أخرى ربما نتوقف عندها لاحقًا، ونتمنى على وزارة الثقافة الأردنية أن تدعم مثل هذه الأفلام التي توثق للرسوم الصخرية في الأردن لأنها جزء من التاريخ الفني واللغوي والاجتماعي لقبائل عربية بدوية عاشت هناك ودوّنت تاريخها على صفحات الصخور بالرسوم التصويرية والنقوش الغائرة التي صمدت لأكثر من ألفي عام. أما الفنانة روان العدوان فقد نفخت الروح في هذه الرسوم الصخرية وحوّلتها إلى أعمال فنية ساحرة تخلب الألباب، وتحرِّض محبّي الفن التشكيلي على مشاهدتها، والاستمتاع بخطابها البصري الذي يجمع بين الأصالة والروح المعاصرة.