قال لي محدثي بصوت واهن هده السهر الطويل ومتاعب العمر الذي أفناه في الكتابة والقراءة، كان يعدل من جلسته وفمه مفتوح ، حيث واصل كلامه بشكل متدفق...
ـ اسئلتك عزيزي تذكرني بأهم الحوارات التي اجريتها في حياتي.
سألته كيف؟
قال: منذ سنوات طويلة كنا نلبي دعوة اقامتها لنا احدى دور النشر ، كانت القاعة غاصة بالكثير من أسماء الكتاب الكبار.. أينما تلتفت تجد الكثير من الوجوه التي عشت معها قراءة قبل أن تلتقي بها وجها لوجه.. اقتربت مني شابه تشبه قطعة " الآيس كريم " بيضاء بقامة مديدة واكتناز محبب وملابس منسجمة تماما مع ماتضعه من مكياج بسيط.. وبابتسامة ملائكية أعقبتها موسيقى الصوت:
ـ هل تسمح بإجراء حوار معك؟
قبل أن تقدم نفسها والجهة التي تعمل بها وافقت على الفور... انتحينا جانبا ، بعيدا عن جلبة الضيوف ولغطهم وقهقهاتهم ودخان سكائرهم.. وجدت نفسي وجها لوجه مع " الآيس كريم " الطفولي الرائع وكركرات موسيقية...
تركت لها حرية الاختيار... سألتني في البدء سؤالا تقليديا كان يبدو أنه تمهيد لسؤالها المهم ، واجبتها بجواب لم أجمله ولم أنمقه ، بل خرجت الاجوبة متدفقة وبسيطة.. درنا حول الكثير من التفاصيل:
وبعد أن درت معها حول كتب وكتاب كثر مررت بهم.. باغتتني بسؤال عن " هل هناك قصة تحولت الى رهان بيني وبين نفسي أن أكتب افضل منها أو على الأقل مثلها ؟"
..
اجبتها مباشرة "إنها الأرجوحة" وحينما استعلمت أكثر، قلت لها "إنها ارجوحة محمد خضير" تلك القصة التي وقعت بين يدي حينما كنت طالبا في الصف الثاني المتوسط.. منشورة في مجلة الآداب البيروتية.. قرأتها لمرة ومرة أخرى وأخرى.. يومها كنت قد انتهيت من كتابة مسودة خاطرة كنت اسميها قصة ظلما، قرأت مسودة الخارطة وقرأت "الأرجوحة" ومن يومها وضعت نفسي في عملية رهان او ماراثون.. كبير.. عاهدت نفسي على أن أكتب قصة كالأرجوحة او تفوقها فنيا وثيمة...
كانت صورة الجندي العائد من الجبهة والمكلف بإخبارعائلة صديقه الجندي الذي مات في الحرب تلك العلامات شاخصة في مخيلتي.. البيت الطيني وسط البساتين.. النهر.. النار الموقدة في التنور.. الدراجة وحركة الدواليب والحقيبة التي تتأرجح على كتف الجندي ومن ثم نصل إلى الأرجوحة التي كانت هي لب القصة وبؤرة رمزيتها وحركتها في الصعود والهبوط لارتباطها بالطفلة التي تتطاير خصلات شعرها مع الريح كلما دفعها بقوة ، تشبه القوة التي كان الأب يدفعها .. ويقف حائرا أمام السؤال الكبير الذي تسأله الأم.. عن ولدها علي.. لماذا تأخر في إرسال الرسائل.. وهل هو بخير " يجيبها علي ابنك.. قد... " هنا يتوقف الزمن وتتوقف الإجابات، لا يستطيع أن يخبرها أن ابنها قد مات في الجبهة.. حينها صمت وانا احدق بوجه الصحفية " الايس كريم " التي سألتني: لماذا صمت؟ أجبتها لقد مررت في حربنا الكارثية الطويلة في موقف يشبه هذا.. لكني هربت يومها وفعلت مافعله الجندي حينما أخبر الأم " أن ولدها بخير.. وسيعود لاحقا "، هكذا فضلت أن يسمعوا الخبر من غيري.. وهذا أيضا جزء آخر حيوي يربطني ولكن بارتباك انساني كبير مع قصة الأرجوحة.
اخيرا سألتني الآيس كريم: لكنك لم تجبني على سؤالي رغم أنك كتبت الكثير من القصص وأغلب قصصك كانت تدور في اجواء الحرب.. هل كسبت الرهان في سباقك الماراثوني مع قصة الارجوحة؟ أجبتها بما يشبه الاعتراف.. " ايتها الآيس كريم الرائعة " لو لم تكوني بهذا الجمال " لما استطعت أن اقول لك ما سأقوله لك الآن! قالت: كلي أذان صاغية! وبصوت أردته أن يكون مسموعا: على الرغم من أني تجاوزت الستين من العمر مازلت أحلم بكتابة نص يشبه قصة الأرجوحة أو يتفوق عليها على الأقل.

عرض مقالات: