(*)

لا وجود لمتغيرات ثقافية بالمصادفة أو بدافع الموضة، لأن البنية الثقافية ليست عائمة في الهواء الطلق، بل هي مشتبكة ضمن البنية المجتمعية في تراتبياتها السياسية والأقتصادية والفكرية..تدفق الشعر الحديث في العراق بتوقيت مواكبة العصر ثوريا وعلميا واقتصاديا وثقافيا وكانت الحاجة إليه نتاج وعي ميداني لما يجري على المستوى حركة التحرر العربية

(*)

 كتمرد على أبوية فرسان الشعر الحديث، ولدت قصيدة النثر في العراق، بشهادة الشاعر فاضل العزاوي (إن الشكل البدائي للقصيدة أو اللوحة لم يعد قادراً على استيعاب انفعالاتنا وتجربتنا الحضارية الجديدة في عالم متأزم. ولهذا بدأت أضجر من قصائد السياب ونازك، دون أن انكر دورهما التاريخي/ جريدة الأنباء الجديدة/ 31/ 10/ 1964- كلمات شاعر- سجن الحلة )*..

(*)

ستتراجع قراءتنا نحو الينابيع الأولى  لم تبق قصيدة النثر على ماهي عليه فالمسافة ليست شاسعة ميكانيكا بين 1905 وهذه اللحظة من آذار 2018 بل هي شاسعة من خلال تحاولات الكم الى كيف جديد . ففي ( أكتوبر من عام 1905نشر أمين الريحاني، في مجلة الهلال الشهرية، قصيدة نثرية قصيرة، سماها رئيس التحرير جرجي زيدان في تقديمه لها،، الشعر المنشور،، ولم يبح أمين الريحاني بالسر لقرائه إلا في عام 1910/ 385- أ.د.ش. مورية/ أثر التيارات الفكرية والشعرية الغربية في الشعر العربي الحديث 1800- 1970/ ترجمة د. شفيع السيد  و د. سعد مصلوح/ منشورات الجمل/ط1/ بغداد/ 2014) في 1955 سيقوم ألبرت الريحاني بنشر ديوان (هتاف الأودية) في الجزء من الريحانيات وسيحلق بها قصائد نثرية جديدة ..إذن بدأت مناصرة قصيدة  من خلال مجلة شهرية مرموقة وبعد نصف قرن ستضرم قصيدة النثر شعلتها من خلال مجلة شعر وستقف على الجانب الندي مجلة الآداب . والسؤال الأهم من هو الأول الذي علق الجرس ؟

في مجلة الرسالة نشر دريني خشبة في 1943 قال فيه (إنه لا يستطيع أن يقطع بأن أيا من الشاعرين عبد الرحمن شكري أو محمد فريد أبو حديد ، كان أول شاعر مارس نظم الشعر المرسل في مصر والعالم العربي / 176) ..في كتابه (يسألونك ) في مقالة خاصة يعلن الكاتب الكبير محمود عباس العقاد، أن الأول هم الشعراء الثلاثة :

*محمد توفيق البكري، في قصيدته(ذات القوافي)

*جميل صدقي الزهاوي في قصيدة منشورة في (المؤيد)

*عبد الرحمن شكري في قصيدته المنشورة في (الجريدة)

وهناك رأي آخر يدلي به : أ.د. ش موريه  أن الخطوة الشعرية الأولى، كانت قبل بداية القرن العشرين (قام بها رزق الله حسون في ترجمته المنظومة للأصحاح الثامن عشر من سفر أيوب في كتابه،، أشعر الشعر،، في 1869/ 178)..

في خمسينات القرن العشرين، سيصوغ الشاعر حسين مردان كتابة جديدة لنشيد الأنشاد .. وفي 1922 في مجلة (الحرية) سيقوم الشاعر الكبير معروف الرصافي بكتابة نصوص يجنسها (الشعر الصامت) أو(الشعر المنشور) ولم يترد الرصافي في إعلان إعجابه بالشاعر العراقي مراد ميخائيل أحد رواد قصيدة النثر في 1924 في العدد الثاني والعشرين من جريدة (المصباح). وستقوم مجلتا (الحرية) و(الزنبقة) وجريدتا( العراق) و(صدي بابل) بنشر نماذج من الشعر المنشور

ومن شدة إنحياز الرصافي لهذا الجنس الشعري، فقد كتب مقدمة طريفة لديوان (صلاة الشيطان) لشاعر النثر مراد ميخائيل . يعتبر روفائيل بطي المتوفى في 1954 رائدا لقصيدة النثر فقد طبع مجموعته النثرية (الربيعيات) في 1925

أما قصائد الديوان فتنطلق من 1920 وتنتهي في 1925 وهناك شاهد عدل عربي على تميزات الشعرية العراقية في الثلث الأول من القرن العشرين والشاهد هو الدكتور يوسف عزالدين في كتاباته في النقد وفي الأرشفة .ومن شعراء قصيدة النثر شكري الفضلي ،المتوفى في 1926 كما شارك بهذا الجنس الكاتب القصصي اليهودي العراقي ميري بصري، (1911- 2009)..أصدر ميري بصري مجموعة نثرية بعنوان(نشيد الحرية) في 1928 وهناك الشاعر أنور شاؤول الذي بدأ ينشر قصائد نثر في 1921- كما جاء في كتاب يوسف الصائغ(الشعر الحر في العراق منذ نشأته حتى 1958)

(*)

نعود الى رأي العقاد، الذي يفنده موريه، بقوله(إن مايرجحه العقاد من أن توفيق بكري، هو أول شاعر عربي في العصر الحديث كتب َ شعرا مرسلا غير صحيح، فقد نشر البكري قصيدته،،ذات القوافي،، بين عامي 1906- 1907 في مؤلفه،، صهاريج اللؤلؤ،، وهي من بحر المتقارب، ويتكون كل بيت فيها من شطرين، وكل بيتين متحدان بالقافية، وهذا يعني أنه نظم القصيدة المزدوجة

(*)

خطأ العقاد الذي لايخطىء أين ؟! بل هو خطأ شائع (ولم يكن العقاد الشاعر الوحيد الذي عدّ المزدوج شعراً مرسلاً، فقد فعل دارسون آخرون الشيء نفسه مثل صالح حسن الجداوي.../ 180 موريه)

*قصيدة الزهاوي منشورة في 1908، ومكتوبة في 1905 وهي مؤرخة (بغداد في الأول من أبريل 1905) ويعاضد موريه ما ذهب إليه الزهاوي حول عبء القافية في الشعر العربي أعظم منه ثقلا في الشعر الغربي، لأن القافية في العربية تشمل الحركة السابقة للحرف الصامت،، حرف الروي،، الى جانب حرف الروي نفسه، كما أن المجرى وهو الحركة الإعرابية للقافية هو جزء من القافية مما جعله يتحكم في البناء النحوي للأبيات. وبذلك يجعل الشعراء أفكارهم مستعبدة للقافية التي تملي عليهم الأسلوب والفكرة بدلا من أن تتكامل القافية مع المعنى / 182- موريه

(*)

في حفرياته المعرفية الشيقة، توصل الصديق الشاعر عبدالله حسين جلاب، وأمسك بالجذر العراقي السومري لقصيدة النثر في كتابه (قصيدة النثر /تواقيع) / دمشق / دار أمل الجديدة/ 2016..وأختار الشاعر عبدالله حسين جلاب نماذج من قصيدة النثر السومرية في كتابه .

(*)

لنستعيد لحظتنا قبل ثلاثين عاماً،قرأنا قصيدة النثر: فرنسية المنشأ من خلال ما قرأناه عن طريق مجلة شعراللبنانية وكذلك من خلال موسوعة الشعر الفرنسي، ترجمة بول شاؤول، وما ترجم إلى العربية من قصائد آراغون وبول أيلوار وآلان بوسكيه وجاك بريفير ورامبو وأيف بونفوا ... وترجمة زهير مغامس لكتاب سوزان برنارد عن قصيدة النثر..وكذلك من خلال مجلة(مواقف)..والسبب لايخلو بنسبة عالية من فعل الترجمة وهناك من يرى سببا آخر هو الموقف الثوري في فرنسا ضد سلطة النظام الصارم للوزن الاسكندراني / فوزي كريم- ص113/ تهافت الستينين

  (*)

السؤال هو كالتالي أين قصيدة النثر الانكليزية والألمانية والروسية ..؟! لماذا تعمدت الترجمة العربية، تناسيها؟بإستثناء محاولات فاضل العزاوي بترجمة قصائد نثر من الشعر الأمريكي أتذكر منها قصيدة لغريكوري كورسو وقصيدة لألن غينسبرغ(إني أكرهك يا أمريكا) وللشاعر سركون بولص دور ريادي في التعريف بالحركة الشعرية الأمريكية (البيتنكس)* والشعراء سنايدر، وفرلنغيتي كورسوكو وكرواك وإلن غينسبرغ خصوصا قصيدته المدوية الصيت (عواء)..وهي قصيدة صعبة وعصية على الترجمة بشهادة سركون وهي قصيدة مهمة جدا وسيقوم سعدي بترجمات مختارات عديدة لشعراء قصيدة النثر من السويد والأمريكان والإيطاليين والأسبان،كما سيقوم الروائي سامر أبو هواش بترجمات مجلدات أنيقة  لسيلفيا بلاث، آن ساكستون، تيد كوزر

 (*)

بالنسبة للشعر الأمريكي يرى (راسيل أدسون) (أن قصيدة النثر جاءت الى الامريكيين لا من فكرة قصيدة النثر الفرنسية، بل من الشعر الحديث ذاته) أما الناقد(فريدمان) فيرفض استعمال مصطلح قصيدة النثر ويفضل عليه مصطلح(نثر الشاعر) والسبب من وجهة نظره : أن قصيدة النثر : (تعتمد المفارقة التي تهدف على التمويه على الشعر الغنائي، ومن جانب آخر تظل مرتبطة بمناخ الرمزية الفرنسية الوجداني ) بالنسبة لي كقارىء أرى في كلام فريدمان صراع هويات ثقافية ..من جانب آخر يرى ان النقد الامريكي :(أن الموقف التطوري المستريح لم يجد نفسه مضطرا للخروج من الاوزان والتقفية ومن الاشكال السائدة. إن شيوع،، الشعر الحر،، و،،الشعر المرسل،، دون تقفية قبله، وتطورهما قد مكنا الشعراء المحدثين من المجالات التعبيرية الكبيرة التي قد تكون متوفرة في،،قصيدة النثر،، فلم التحول أو الا لتجاء اليها.)

*أ.د.ش. موريه/ أثر التيارات الفكرية والشعرية في الشعر العربي الحديث 1800- 1970/ ترجمة د. شفيع السيد  و د. سعد مصلوح/ منشورات الجمل/ بيروت – بغداد/ 2014

*مقدمة لقصيدة النثر/ أنماط ونماذج/ تحرير : بربان كليمنس/ جيمي دوبام / ترجمة : محمد عيد ابراهيم/ الهيئة المصرية العامة للكتاب/ القاهرة / 2014

 * بخصوص رسالة فاضل العزاوي الى عبد الرحمن الربيعي /  ص 118سامي مهدي / الموجة الصاخبة/ دار الشؤون الثقافية/ بغداد/ 1994

* شاكر لعيبي/ رواد قصيدة النثر في العراق/ محاولة في التأصيل/ دار ميزوبوتاميا/ بغداد/ ط1/ 2010

*فوزي كريم كريم/ تهافت الستينين/ دار المدى/ ط1/ بغداد/ 2006

*سركون بولص/ سافرت ُ ملاحقا ً خيالاتي- ص164 وصفحات غيرها/ منشورات دار الجمل/ بغداد/ ط1/ 2016

*حوار عدنان حسين أحمد مع سركون بولص/ موقع الحوار المتمدن/ 19/ 12/ 2008

*عبد الله حسين جلاب/ قصيدة النثر- تواقيع / دار أمل الجديدة/ دمشق / ط1/ 2016

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*هذه الورقة : خلاصة أوراق مبحث نقدي قدمت في أمسية منتدى أدبيات البصرة 28/ 3/ 2018 / بمناسبة يوم الشعر العالمي

عرض مقالات: