"يلعب الحبّ أهمية كبرى في حياتنا، بسبب قدرته على جعلنا نتحرك.. ونشعر.. ونفكّر.. ونأتي بأفعال جديدة لم نأت بأمثالها من قبل"
استذكرت هذا القول للكاتب الفيلسوف رولاند دي سوسا بعد انتهائي من رحلةٍ أخذني بها الروائي محمد حيّاوي في روايته "بيت السودان"، حيث انه يفتح لك بابها ــ الرحلة ــ من العنوان الذي يأخذك في مقارنةٍ لغوية اولاً بين "السودان" البلد، ام العشيرة، ام ذوي البشرة السوداء، لكنك ما أن تطأ العتبة حتى يعطيك مفتاح ما يريد: "فتشربتُ بالليل كله حتى صرتُ سوداء" و"أقصد تلك السمراء ذات الشعر الأجعد".
بهذا المدخل تفكّ شفرة الحكاية، اذ سيكون البيت لنسوةٍ ذوات بشرةٍ سوداء، ويكون الحكي عن طريق الراوي العليم ــ ضمير المتكلم ــ وهو "علي" الولد الذي احتضنته ياقوت وربّته طفلا ليعشقها دون ان يعلم انها ليست بأمه التي ولدته، والتي ستكون هذه حكاية غامضة في الرواية منذ بواكيرها وحتى انقاذه من الحريق المفتعل بتضحية لا مثيل لها، لكن هذا الاحتضان يتحول الى عشقٍ وولهٍ لا مثيل له بين الأم المفترضة والبطل!
الرواية تأخذ أكثر من زمنٍ فهي تبتدئ في اوائل الثمانينات من القرن الماضي وحتى سقوط النظام في 2003 وارتداء البعض اقنعة تخفي تلونهم وما كانوا يضمرون من عداوةٍ وأمراض نفسية وانتهازية مقيتة!
الجدّة "عجيبة" التي تكبر النساء سناً وعلى ما اعتقد هي والدة ياقوت ومربيتها، حيث ان البنات الموجودات في البيت لا تربطهن صلة قربى أبداً سوى معيشتهن في بيتٍ واحد وامتهانهن الرقص والغناء، وهنا تظهر لعبة ابتكرها الكاتب وهي تقارب معنى اسمائهن "عجيبة، ياقوت، نعيّم، شمّة وغيرهن" وأسماء الاخريات اللواتي يكون لهنّ مكان في قلب ياقوت أو يتصلن بها خلال مجريات الاحداث "عفاف، درّة، صبرية، نانسي" لتجد نفسك كمتلقٍ لحكاياتٍ اشتركت فيها نسوة يربطهن رباط خفي جداً لن تستطيع الوصول اليه إلاّ بعد الانتهاء من قراءة الرواية وتأمل مجريات احداثها، كما انك ستذهب في طريقٍ آخر يأخذك فيه "حياوي" أيضاً وهو "الزقّورة" وحارسها الاعمى "ضمد" وهنا لعبة ثالثة ــ حارس اعمى في مقبرة اثرية، أيعقل هذا ؟! ــ والجواب:ــ نعم، يعقل جدا اذا عرفنا بأنه فاقد للبصر فقط أما بصيرته فثاقبة ونافذة جدا بحيث يقوم بفك شفرات الالواح الموجودة في المقبرة الملكية ويقارن بما فيها من كلام مع ما يحدث على ارض الواقع وكأنها نبوءات كتبها الاولون لنا، وارتباط هذا الحارس بالأحداث أولاً بأول، ابتداءً من جلسات السمر التي يقيمونها عند ياقوت في بيت السودان هو والدكتور وسيد محسن والحوذي "موزان" الذي نعرف بعد اختفائه اثر فشل انتفاضة 1991 وقمع المنتفضين بوحشية من قبل النظام، انه شيوعي وقد ربّى ابنته وعلّمها على مبادئه ومثله العليا، ولم نعرف مصيره حتى النهاية ــ هل أُعدم، أم هاجر، أم ماذا ؟! يتركه "حيّاوي" لغزاً رغم ما تمرّ من أحداث على ابنته "عفاف" التي ترتبط بـ "علي" كصديقةٍ وزميلة وحبيبة نتيجة التجائها الى بيت السودان ومعيشتها عند ياقوت اثر اختفاء ابيها ومطاردتها من قبل ازلام النظام، بعد ذلك ذهابها الى بغداد ودراستها الجامعية، وهنا نجد ان الكاتب اخذ يربط بين نضال الطلبة الشيوعيين أيام السبعينات في اتحاد الطلبة وما كانت تحلم به عفاف الطالبة الجامعية في التسعينات، وكيف يصورها لنا قائدةً في التنظيم الطلابي تمارس رفضها ما يحدث من ظلم واضطهاد في البلاد ويؤكد ايضا هنا على رفض الشيوعيين الحرب واحتلال العراق بالقوة عام 2003 من خلال ما قامت به عفاف وبعض رفاقها من مقاومة واعتقالها من قبل القوات الامريكية، ثم مساعدتها المجندة "نانسي" وهذه ايضا ذات بشرة سوداء و سيكون ارتباطها بعلي روحيا من خلال ما نلمسه من علاقة تكاد تكون خفية بينهما .
وكي اعود مرة اخرى لتقارب معاني الاسماء في هذه الرواية ارتأيت أن أسأل الكاتب عن لعبته هذه فقال:ــ
"الاسماء في الرواية اشتقاقات خاصة جداً ولها ايحاءاتها لتسقطها على وعي القارئ" اي بمعنى انه تقصّد ذلك وبوعي تامٍ جداً.
من خلال تغلغلي في أحداث الرواية والتي هي امتداد لثلاثية يكتبها الروائي "حياوي" حيث ابتدأها بــ "خان الشابندر" و"بيت السودان" رحلته الثانية وجدت انه يشتغل في كلتيهما على الحلم المطلق من خلال سرد الاحداث على لسان البطل ــ الراوي العليم ــ وبطريقة أنا المتكلم، حيث نجد "علي" يبتدئ حديثه برؤيا يحكيها لــ "عفاف" وهما يجلسان على شفا حفرة كبيرة "خسف" يضم واحة خضراء وعين ماء تجلس عندها النسوة التي كن في بيت السودان تحديداً "عجيبة، ياقوت، شمّة، نعيّم والأخريات" وبطريقة ايحائية يسرد الحكاية بــ ــ فلاش باك ــ اي بطريقة الاستذكار الحلمي، لنجده ابناً لامرأة سوداء وعشيقا لها في الوقت ذاته، لكنه عشق طهراني صوفي، اذ لم يبيّن الكاتب متى؟! وأين؟! وكيف جاء هذا الولد الابيض الجميل الى بيت السودان لتحتضنه ياقوت وتربيه كابن لها وحبيب، إلاّ انه بإشارة بسيطة خلال مجريات الاحداث تقول ياقوت انهم وجدوه وليداً مقمّطا ومرميا خلف سياج المستشفى، وفي الوقت ذاته نراه يعتقد انها ليست امه بيولوجيا لأنه يشتهيها جنسياً ويحلم بها، بل يتخيلها في لحظات تلاصق وانجذاب، وهي تعبده وتغار عليه بطريقة الاشتهاء الممتنع فتقمع رغباتها ونداء جسدها من دون رحمة وبكل ما تستطيع لكن عشقها له مكشوف للآخرين.
الرواية تبدأ بحلم وتنتهي به من خلال الربط بين ما جاء في الصفحات الثلاثة الاولى والثلاثة الاخيرة منها، حيث اننا نجد ان كل ما جرى من احداث عبارة عن حلمٍ متكون من عدة حكايات يرويها علي ــ الراوي العليم ــ ليؤكد عمله بدقة وهو أرخنة فترة زمنية تغيرت فيها ضمائر ووجوه وأشكال مدن وبيوت، وساد القتل والموت المجاني والخراب رغم ما بقي في نفوس البعض من محبّة ونكران ذات.
الحلم هنا مطلق وبالإمكان استمراريته وسرد احداث اخرى وربطها ببعض الى ما لا نهاية، حيث ان علي وهو هائم بحبه لياقوت الام والمربية والعشيقة، وانشداده القوي اليها بدون شعور يؤكد قول المهاتما غاندي :ــ "ان أصلب عود يلين بنار المحبة، فإذا لم يلن فان النار غير كافية"، وهنا نصل الى طهرانية الحب حيث تصنع المستحيل من خلال ما قامت به ياقوت حينما هجم المتطرفون القتلة بقيادة السيد محسن الذي كان في فترة سابقة من عيون النظام وعسسه ويأتي بين فترة وأخرى ليسكر ويسهر في بيت السودان، وأكثر من مرة اراد مراودة شمّة إلاّ انها تمنّعت وصدّته فحدثت مشاجرة كبيرة بينه وبين ياقوت بسبب تهتكه، والذي تحول بعد سقوط النظام الى متشدد ومتطرف جدا، حيث هجم على بيت السودان بحجة تطهير المكان من الدنس حسب ادعائه وفريته وقام بإضرام النار وحرقه بمن فيه انتقاماً فأنقذت ياقوت علياً برميه من فوق السطح لتموت هي ورفيقاتها حرقا دونه!
ترك المؤلف "علي" حياً ليقوم بسرد الوقائع والأحداث لـ "عفاف" التي تحاول افاقته من حلمه الذي يعتبر هنا مرضاً نفسيا لازمه بعد هول ما حدث وفقدانه ياقوت وبيت السودان.
محاولات عفاف سحب علي وإيقاظه من الحلم ومداواته بالحب اشارات للحلم الذي رسمه المؤلف من أول كلمة في هذه الرواية ولتكون مفتاحا الى حياة اخرى :"مبيتك في المقبرة يفاقم ازمتك ولن ينسيك فجيعتك صدقني".
"علاوي، ارجوك، كف عن الحديث عن ذلك الخسف، انك تثير جنوني".
"لم يبق سوى أحدنا للآخر، ان خسرتك فسأخسر نفسي ايضا، لا اريد ان اسكن المقابر مثلك وأتعلق بوهم الخسف الذي يتراءى لك، ذهنك مريض يا حبيبي ويرسم لك الخيالات الوهمية التي ترغب فيها ليس إلاّ ...".
اي بمعنى ان الحكاية التي سردها لنا المؤلف هي ما يدور في ذهن علي خلال مكوثه في المقبرة من ذكريات اشبه بالحلم تهويماته اثر الصدمة تلك، لنجده في اخر السطور يؤكد انها مفتوحة على عالم اخر سيأتي لاحقا:
"ألمح النساء السبعة السوداوات يلوّحن لي من بعيد، وفي لحظة خاطفة دهمني طيف عابر مثل طائر، وهتف في اذني بنبرة حنون:ــ اذهب مع عفاف يا حبيبي، لا تخف، ثم اختفى، وظل الصدى يتردد آفلاً وسط القبور، لا تخف...".
محمد حيّاوي يعيش الحلم الواقع من خلال تبنّيه الرؤية الكاملة لعمله حيث يمنح البطل صفة "القارئ والكاتب والمثقف" في الوقت نفسه، اي يُسقط موشوره الحكائي ووعيه ورؤاه على وعي بطله كل مرة ومن خلال الحلم الذي يشدنا اليه ايضا!
محمد حيّاوي روائي من طراز خاص، يعمل منفرداً ليؤرخ حياة شعب من خلال ما يراه بوعيه وتفكيره الخاص، اشدُّ على يديه بانتظار عمله "حلمه" القادم!