عشتُ طفولتي وصباي وبعض شبابي في قرية عند تخوم البحر في أقصى جنوب الجنوب، أهلها يمتهنون الزراعة وصيد الأسماك وبعضهم يعمل في الميناء كأبي.
قريتنا، التي أصبحت ناحية في سبعينات القرن المنصرم، في الخمسينات والستينات كان فيها أربع مدارس ابتدائية فقط، جميعها مختلطة بنين وبنات، بعد منتصف السبعينات فُتحت أكثر من مدرسة بالإضافة إلى ثانوية مختلطة. دخلت الابتدائية في أواخر الستينات لأكملها في اوائل السبعينات، لستُ بصدد رواية سيرتي المدرسية، بل الحديث عن علاقتنا وأهلنا كطلبة وأولياء أمور مع المعلمين، حيث كانت علاقة يكللها التقدير والاحترام، والمكانة اللائقة للمعلم وما يحمله من رسالة سامية تفتح أمامنا آفاق المستقبل وتجعل منّا رجالاً نخدم أنفسنا وأهلنا ووطننا من خلال تبادل التحيات ودعوات المعلمين للأكل في بيوتنا واستقبالهم أحسن استقبال عند وصولهم لباب المدرسة، إذ كنا نأخذ دراجاتهم الهوائية قبل دخولهم المدرسة ونركنها في أماكن خاصة، إضافة إلى الوقوف أو الجلوس أمامهم بكل احترام وتقدير والإصغاء إليهم بشكل كبير.
كانت علاقتنا نحن أبناء القرية الجنوبية الفقيرة بمعلمينا رائعة ولها وقع كبير في نفوسنا جميعا كطلاب ومعلمين، رغم فقر أهلنا وعدم معرفة الغالبية منهم القراءة والكتابة، لكنهم كانوا يعرفون قيمة المعلم والعلم والمعرفة ويقدرونها حق تقدير!
تذكرت تلك الأيام التي صاغتنا ذهبا من إنسانية ومعرفة وأخلاق، وأنا اقرأ واسمع ما يحصل الآن من اعتداءات متكررة على المعلمين والمدرسين وإدارات المدارس من قبل أولياء الأمور، رغم أننا في القرن الواحد والعشرين، وبعد هذا التقدم في العلم والمعرفة والتكنولوجيا يقوم البعض بضرب المعلم إذا حاول أن يُصلح تلميذا ارتكب خطأ أو يزجره عند ارتكابه عملا لا يليق به كطالب، كما نقوم بالاعتداء على المعلم إذا ضبط أحد أبنائنا وهو يغشّ في الامتحان!
الطامة الكبرى صرنا نتبجّح بالغشِّ ونتفنن بابتكار وسائل غريبة عجيبة لنقوم به، رغم أننا نعرف أن الغش لا يؤدي إلاّ إلى الخراب والجهل وسوء الخلق.
سننجح، نعم، ونحصل على شهادة.. نعم، لكن بلا وعي ولا معرفة أبدا، سنستفيد من شهادتنا هذه في التعيين مثلا، ولكن هل استفدنا منها علميا وأخلاقيا ؟! بالتأكيد لا، إذ سنظل جهلة وأميين بكل شيء وسنعيش جل حياتنا بالغش، لأن العلم والمعرفة أخلاقٌ وتهذيبٌ واحترامٌ للآخرين، وإذا لم نحترم المعلم فإننا بالأصل لن نحترم العلم والمعرفة، وكل مجتمع لا يحترم العلم والمعرفة سيبقى جاهلا ومتخلفا ومتأخرا عن ركب التقدم والحضارة والتطوّر!
الاعتداء الذي قام ويقوم به بعض أولياء أمور الطلبة الغشّاشين ما هو إلاّ تدنٍ في الأخلاق والقيم وعدم احترام المبادئ والرسالات السماوية والأرضية التي أوصتنا باحترام المعلّم، وان له مكانة قدسية كبيرة، لأنه يعلمنا معنى الحياة وكيف سنصبح قادرين على خدمة أنفسنا وناسنا وبلدنا، واحترامه هو إيمان بالوطن والناس ومستقبل الجميع.