هل يمكن توصيف المثقف العراقي وفق ما قاله غرامشي، أو دوركهايمر، أو سارتر، او فوكو، أو غيرهم من المفكرين والفلاسفة؟ أم أن للمثقف العراقي تعريفًا ينبثق من مشكلات اجتماعية لها طابعها المحلي المشبع بتعرجات الزمن واشتباك القضايا والافكار ، وسرعة التحولات التي أدت إلى انتكاسات اجتماعية، أثرت ليس على المثقف؛ الشريحة الإنسانية الناضجة والواعية، بل على مجمل الحياة الاجتماعية، وبكلياتها الاقتصادية والتعليمية والثقافية بحيث لم يعد في مجتمعنا أي مفهوم عن الاقتصاد أو الثقافة أو السياسة ثابتًا يمكن أن يصف لنا بوضوح ما يحدث، إن واقعًا ضُرب بملايين القنابل المختلفة ابتداء من حربنا مع ايران وحتى سقوط الطاغية، بإمكانها أن تغير ليس الواقع المادي بل الواقع الروحي والثقافي للإنسان العراقي، والطامة الكبرى أن هذا الوضع المأساوي المربك إنهار تدريجيا عندما استولى على مقدرات حياتنا نخبة من السياسيين لا يفقهون معنى التقدم والثقافة والحداثة ودور المثقفين وآلية اشتغال الفكر، لأنهم قد عصبوا أعينهم وادمغتهم على مقولات لم تعد صالحة حتى للتداول نحويًا وفقهيًا. بمثل هذه الوضعية المربكة بشموليتها لم تعد لا الطبقات الاجتماعية ولا شرائحها ثابتة بتوصيفاتها الفلسفية القديمة ولا بأطرها الثقافية التي أوضحت عبر الممارسة أنها مرنة وقابلة للتشكل كلما مررنا بظروف جديدة. ومن بين هذه الأطر الإطار الذي يصف، ويشخص، ويعين، المثقف والمثقفين، ودورهم التاريخي في بناء المجتمع، بصيغ الحداثة والتنوير. والسؤال المحوري الذي ينبثق من تضاعيف هذه المرحلة المربكة، هل المثقفون على درجة واحدة من المرتبة الاجتماعية التي عينته كشريحة ناضجة تحدد بمداركها العقلية ومعارفها الفكرية امكانية أن تكون رديفًا تنويريًا للحركة التحررية والتقدمية؟. كان هذا السؤال أحد أهم مفاصل رؤية غرامشي للمثقفين، حين قسمهم إلى فئتين كبيرتين: الفئة الأولى هي التي تضطلع بمهام التنظير والتفكير ووضع الخطط والرؤية المستقبلية للوضع العام ، والفئة الثانية من المثقفين هم الإداريون ومنفذو الأطروحات الفكرية والتنظيمية لحقل الثقافة ودورها في بناء المجتمع. وللوهلة الأولى تبدو هذه التقسيمات فيها شيء من القولبة لطبيعة المثقف وتحوله إلى ما يشبه آلة عمل، فالمثقف الذي ما أن يجد نفسه في موقع الإنتاج الثقافي حتى يتماهى مع موقعه ويحسبه موقعًا متميزًا حتى لو كان إداريًا أو منفذًا لمشروعات الثقافة، في حين أن الرؤية المتفحصة لتشكيلات المثقفين المنحدرين من مختلف الطبقات الاجتماعية والذين لا يجمعهم أي تصنيف طبقي محدد إلا بكونهم رديفا للتنوير والتجديد، تجمعهم الأهداف المشتركة والأوضاع الإجتماعية مع الطبقات الاجتماعية الاخرى وخاصة العمالية حيث يجدون أنفسهم بتدرجاتهم العمالية يساهمون في بلورة مواقع فئاتهم المتميزة في المجتمع، وبالتالي تمكنهم هذه المواقع من أن يؤدوا أعمالهم بطريقة منتجة بغض النظر عن مراتبهم الوظيفية والفكرية.
يقول غرامشي "يضطلع هؤلاء "المثقفون" إذن، بإنجاز وظيفة ثقافية من الدرجة الثانية: فسواء أكانوا فلاسفة أم كتابًا كبارًا، ينتمون إلى التعليم العالي، أم رجال قانون، أم علماء ومكتشفين، فإنهم يمثلون منظري المجتمع وما ينجم عن هذا المجتمع من ممارسات علمية وتقنية، اجتماعية أو سياسية، فيبدون كما لو كانوا تجسيدًا للنشاط الثقافي في حالته الخالصة: يمنعهم نشاطهم الفكري من الدرجة الثانية، من الانخراط في ممارسة اجتماعية ملموسة. وهذا ما يفسر لماذا كان لفظ مثقف - في الاغلب الأعم - نقيضًا للفظ الممارس المطبق" هذا الامر هو الذي جعل الناس يتحدثون عن "مثالية المثقفين" ويعارضونها بـ "واقعية رجال السياسة".
في مجتمعنا العراقي، وخلال تمظهراته السياسية والاجتماعية والثقافية، لم ينعزل المثقف عن طبقات وشرائح المجتمع لا إنتاجًا ابداعيًا ولا مواقف سياسية واجتماعية، ويكاد المثقف العراقي يتجاوز تلك التقسيمات التي اتى بها غرامشي عن المثقف العضوي، أو سارتر عن المثقف الكوني، أو فوكو عن المثقف المختص، ليصبح المثقف شريحة ناضجة بمعايشته اليومية للمشكلات، وتتداخل مهمته في صياغة الفهم ابداعيًا عن ابعاد الثقافة ودورها، ويظهر المثقف بمظهر المدافع الحقيقي عن مستقبل البلاد وحريته. بناء على هذه التحولات فقد تكونت لدى المثقف العراقي خميرة نضالية يمكنها أن تتشرب ابداعاته ومواقفه، وتجعله رديفا تنويريا للطبقات الإجتماعية الأخرى. ومن يقرأ نتاج ادباء العراق؛ شعرًا وروايةً وقصةً ونقدًا وتشكيلًا، لا يجد ثمة انعزال أو ابتعاد عن حياة العراقيين اليومية، ولا عن تصوراتهم لمستقبل البلاد، ولا هو قد تخلف عن ما يجري في العالم، واستقراء ميدانيًا لتطورات الفكر الحداثوي في الشعر والرواية والقصة والتشكيل والمسرح والنقد، في العراق، نجد المثقف العراقي يتجاوز محنه اليومية، ليصوب اهتمامه الى التجديد والتحديث، ومنذ بداية الحداثة وحتى اليوم، يتموقع المثقف العراقي في الميادين المتقدمة للثقافة العربية، والشواهد كثيرة على حراك جديد يجعل المثقف العراقي في دور ريادي متميز.

عرض مقالات: