ألاحظ دوماً عبر المحاور والاستبيانات والسجالات التي تتناول رحلة القصة العراقية عبر الصحف والمجلات والوسائل السمعبصرية الى ظاهرة مواكبة القصة العراقية لكل المدارس الوافدة من مضانها عبر عمرها الذي يقارب القرن من الزمان دون الانتباه ـ إلاّ ما ندر ـ الى شيفرة مغيبة لو انتبه اليها القصاصون والنقاد والمنظرون لكان للقصة العراقية منذ نشأتها شأواً كبيراً: فمنذ المخاض الأول في العشرينات من القرن الماضي مروراً بالخمسينات ومن ثم الستينات فالسبعينات ولحد الآن، نرى أن القصاص العراقي يواكب المدارس المتوافرة، كلٌ في زمنه، وأن يتأثر بها من خلال المحاكاة أو التقليد دون أن ينعتق عنها وينسج هيكله المتفرد. ففي الولادة الأولى للقصة نرى القصاص ينسج على نول القصة التركية والروسية، ولكن دون أن يرتدي ثوبه الخاص. وفي الخمسينات انفتحت في أفق القصة العراقية مصاريع بوابات التجربة الروسية والفرنسية الممثلة بأساطين الرواية والقصة في كلتا المدرستين، فأغترف القصاص الخمسيني هذا الفيض الفوار من التقنيات الحديثة (التحليل النفسي ـ المنلوج ـ تيار الوعي ـ الفلاش باك) فبرزت في هذا الجيل أعمدة ارتكزت عليها القصة العراقية فيما بعد وتبوأت أسماء مؤثرة وفاعلة في ميدان القصة، ولكن القصاص الخمسيني افتقد أيضاً في حينها تلك الاشارة التي دغدغته بإلحاح لكي يشيّد نسيجه الخاص الذي كان بإمكانه أن يفعله، ولكن الاشارة خفتت في خضم تهافت القصاص الخمسيني نحو الحداثة حينذاك، فبقيت أغلب النصوص القصصية منضوية تحت لواء (الواقعية النقدية)، هذه المدرسة العظيمة التي من سماتها أنها تقبل التطور والاضافة وفتح آفاق انشاء الروح الخاصة وترجمة ايحاءات ومرموزات الاشارة الخاصة. وهذا ما انتبه اليه لاحقاً الرائدان (التكرلي والصقر) وركبا عبابه ليصيرا ربانيين متمرسين محنكين من ربابنة القصة العراقية.
فترة الستينات هي بحق فترة البحر في أوج تقلبه وعصفه ونوءه وعدم استقراره، فالقصاص الستيني اختفى خلف الحجاب وارتدى قناعه المصنوع من الغموض والتشكيل اللغوي السريالي والرمز الغارق في السوداوية والعبث واللا جدوى، وحجته في التخفي خلف كل هذه السواتر، أنه قيض لهذا الجيل أن يقارع الواقع فكان لابد لهم من ممارسة لعبة طاقية الاخفاء وألغوا كل المنجز السابق وحاولوا أن يخلقوا أسطورتهم الخاصة. وكاد يغني خارج السرب، لولا أنه انتبه إلى الاشارة لاحقاً واستوعبها جيداً وخرج من الأسوار المطبقة والمهيمنة تماماً عليه وانتبه أن (الواقعيةـ الوجوديةـ الواقعية السحريةـ ما بعد الحداثة) إن هي إلاّ حلقات تفضي إلى المبتغى الذي يتلخص في قصة عراقية خالصة. فكانت أن انفتحت الكوة، واكتشف القصاص العراقي تلك الاشارة: الروح العراقية الغائرة في اعماق التاريخ. فالعراقيون هم أول من كتب الأسطورة وأول من كتب الملحمة الشعبية واول من كتب الحكاية التي تقترب من روح القصص في هيئته المعاصرة من خلال توافر (الزمان ـ المكان ـ الحدث) ممثلة بملحمة كلكامش وحكايات ألف ليلة وليلة والعشرات من كتب التراث العربي، وانتهاءً بحكايات العجائز والشيوخ التي لها بداية ولا نهاية لها. فأنتبه القصاص العراقي إلى هذه الروح الصافية التي تمتلك خصوصيتها المتفردة، فظهرت نتاجات لقصاصين من مختلف الاجيال بوأت القصة العراقية في الصف الأول من مسيرة القصة العربية.

عرض مقالات: