ثقافات المجتمعات في اغلبها يؤسس لها مع الأجيال الجديدة (خذوهم صغاراً)، في المدرسة كان هناك دور يمارسه احد الطلاب، هو مراقب الصف، واجبه ان يأخذ دور المدرس عندما يترك الصف ويحافظ على النظام، فاذا قام احد الطلاب بالمشاغبة، لزم عليه ابلاغ المدرس عندما يعود، فيأخذ ذلك الطالب عقابه.

منهجيا وتربوياً هو دورٌ سلبي، لان الطاب بهذا العمر غير مؤهل للقيام بهذا الدور. عانيت من هذا الدور وانا طفل، فقد كان المراقب يبلغ عني جزافاً، لا لشيء سوى لأنه خاصمني خلال الفرصة، واعتقد جازما ان الأغلبية عانت من دور مراقب الصف.

هذا النموذج لعب عليه حزب البعث في العديد من مجالات الحياة، فقد استغل الأطفال للإبلاغ عن والديهم اذا ما تحدث سلبا عن القائد الضرورة، وتطور الدور عندما كبر مراقب الصف أن تحول الى مراقب للمجتمع، يبلغ عن هذا وذاك اذا ما عمل في حزب سياسي او نشاط اجتماعي او تطاول على القائد الضرورة.

في نفس الوقت اصبح مراقب الصف في اغلب الأحيان، بعد ان كبر في العمر، يبحث عن هذا الدور في المجتمع، خاصة وان حزب البعث يهيئ الفرصة لذلك، فراح يتبرع بالمراقبة بحثا عن اشباع الرغبة الذاتية التي نشأ عليها، او طمعا بالحصول على منصب يؤمن له مصدر رزق ثابت، او انه يبحث عن دور اجتماعي متسلط.

من تجاربي الأخرى مع مراقب الصف، ان كان أحد جيراننا (علي)، ينفذ أوامر الفرقة الحزبية، أما بمراقبة بيتنا وكتابة التقارير، أو محاولات القبض على والدي وهو بالبيت لأخذه الى الجيش الشعبي، في نفس الوقت كان اخوه (أحمد) يبلغنا كلما علم بتحركات أخيه، حتى نأخذ الحذر. جارتنا (خيرية) كانت تتجسس على بيتنا وتكتب التقارير الواحد تلو الاخر، زميل في القسم أبو منيصير الداخلي، بكلية الزراعة، حرص على ابلاغ المسؤول عن وجودي لغرض طردي من القسم لأني من أهالي بغداد، في حين زميلي (حسن عمارة) عثر على كتاب سوسيولجية ماركس في محفظة كتبي، فاستغل الموضوع مازحاً، اما يبلغ ضدي الامن او اشتري له لفة كص، فاشتريت له اللفة.

مراقب الصف كبر معنا فحرص حتى بعد سقوط النظام، أن يحافظ على بذور ذلك النظام باقية، فكان المخبر السري، ومخبر المليشيات بمن هو شيعي أو سني، أو يبلغ ضد من يقاوم بوجه المليشيات السنية والشيعية، مراقب الصف انتقل من دور الجحوش الى ذراع الأحزاب الكردستانية لتثبيت سلطتها في الإقليم، هذا المراقب صار موجوداً في مجاميع الفيس بوك بصفة الهيئة الإدارية، دوره خنق حرية التعبير بحذف منشور او الغاء عضوية شخص، منعاً من كسر عادات وأفكار بالية، بحجة المقدس والتقاليد الاجتماعية، مراقب الصف اليوم في الصحافة العراقية، ومواقع الانترنيت، والقنوات الفضائية، خاصة الفضائية العراقية، التي تعلن جهاراً انها لسان حال الحكومة العراقية وليس من مهامها انتقادها.

الحرية لها أعداء كثيرون، اولهم النظام السياسي والمقدس الديني والشرطي الذي بداخل الانسان، الذي تربى على مدى سنين بفعل فاعل .

اذا كان صدام قد مات فأذنابه لا زالوا على قيد الحياة، الاخلاق التي زرعها لا تزال سائدة، والأتعس ان خَلَفَه، لم يعمل للقضاء على تلك الثقافة، انما استند لها ونماها واستفاد منها، فترسخت في المجتمع، ولم يبقى لنا املاً سوى ان تنتفض المواطنة والمواطن للخلاص من مراقب الصف. 

 

عرض مقالات: