يعد النص المسرحي من أصعب وأخطر الأجناس الإبداعية في أي مشهد ثقافي في العالم. وهو لدينا كما في باقي الدول العربية جنس منقول من الغرب شأن الرواية والقصة القصيرة وقصيدة النثر، وقد ابحنا لأنفسنا في ما بعد التصرف بشكله ومفهومه وقواعد كتابته، فظهر عندنا الاعداد والتوليف والتعريب والتمصير والتعريق والسيناريو المسرحي، وغير ذلك الكثير.
في الغرب يعاملون النص المسرحي على انه جنس دراماتيكي مستقل، له شروطه وقواعده التي تميزه عن فنون الاوبرا والفيلم السينمائي ودراما التلفزيون، وهي قواعد تتعلق بالبناء وعدد الفصول ووحدات الزمان والمكان والحدث والمشهد والحوار والمنظر والموسيقى ووجهة النظر، قام بتحديدها ارسطو منذ القرن الخامس قبل الميلاد ثم تبعه باحثون مختصون معنيون بهذا النص على مرور الاجيال فانبثق منه ما يسمى بالتراجيديا او "المأساة" والكوميديا "الملهاة". وانبثق من الاثنين ايضا "التراجيكوميديا" او الكوميديا السوداء و"الفارص" او الكوميديا المرحة.
اما عندنا فهو يكاد يكتب كيفما اتفق، وكل يكتبه على هواه وبمقدار معرفته بهذا الجنس، فبعض الكتاب او المؤلفين المسرحيين – "لنتأمل صفة المؤلف التي تسبغ على كتاب المسرح وحدهم على العكس من الشعراء والقصاصين والروائيين" يرون ان التراجيديا امر جوهري لاسخيلوس وسوفوكليس ويوربيدس وشكسبير وراسين كأعظم مؤلفي المآسي في العالم، في حين يسمح آخرون لأنفسهم بأن يشكّو في مثل هذا الضرب من التصنيف مدعين ان شكسبير قد كتب ايضا الكوميديا والتراجيكوميديا. ولا يمكن لأي من الطرفين ان يتهم الآخر بانه على خطأ في الواقع، لأن الامر لا يعدو عن خلاف شكلي يتعلق بنوع او شكل النص او احدى اقنعته المسرحية "مضحك، مبك، ما بين بين...".
من الصعب، بالطبع، ان نجد احدا يصدق ان الادب المسرحي قد سار على هذا النحو سوف ينتهي اليه، غير ان من الجدير بنا ان نتطرق الى بعض اسباب هذه الصعوبة. فنحن نعلم منذ البدء، ان النص المسرحي لدينا او في هذا البلد او ذاك لم يدشن كيانا رياديا راسخاً مكيناً كما حصل لدى اليونان والرومان والعالم الغربي ككل، فنحن ما نزال من السائرين على الخطى، ولا نعدو الا محض علامات على الطريق المسرحي الطويل في ادب المسرح او في صياغة "النص"، شأننا في ذلك شأن شواغلنا الاخرى في صياغة الرواية والقصة القصيرة الى درجة تولد الاكتئاب مما هو مشترك بيننا وبينهم، كالريادة والتأسيس والشيوع والابداع الخلاق والبنية الدرامية، قوانين العرض المسرحي، المدارس المسرحية، وما الى ذلك. والى هذا الحد، فان الاستعارة وفعل التناص مع اشهر النصوص المسرحية في العالم ليس فيهما اي نوع من الجاذبية والسحر. وهذا ما ينطبق على حالات الاعداد والتعريق والتمصير والازدراء الحداثوي للتقليد.
ومع الثقة الواضحة بالتأسيس او الحضور في صياغة مشهدنا المسرحي من خلال عروضنا المسرحية الحافلة بفنون الاخراج والتمثيل والتقنيات الاخرى المصاحبة، ومع الظهور الموفق لما يدعى بسؤال الهوية، يبدو اننا ازاء مرحلة طويلة مما اصطلحنا عليه بأزمة النص المسرحي، التي من السخرية ان نتوقع ان تكون قصيرة.
ان النص المسرحي ليس نكتة "كما في الكوميديا العراقية والعربية" وليس نكبة او مصيبة "كما في التراجيديا التي تعارفنا عليها في مسارحنا ايضا" وانما هو صوغ حواري دراماتيكي ركحي على هيئة حياة كاملة، ونسيجها ونوعيتها في سياقها الاجتماعي الفعلي.
لقد دفعتنا عقدة النقص الى البحث عن مرجعيات تاريخية في تراثنا الادبي والمحلي من اجل كتابة النص المسرحي، والادعاء ان هذه المرجعيات لها اصول في البنية الدرامية والعرض المسرحي، كالقصّخون في المسرح العراقي والسامر في المسرح المصري ولعبة البساط والحلقة في المسرح المغاربي، بل ان بعض النصوص المسرحية اتجهت الى تراث الف ليلة وليلة، وحيّ بن يقظان، وألوان اخرى من الاخبار والقصص العربية القديمة، ولقد نجحت الى حد ما في عروض المخرجين الراحلين: الطيب صديقي من المغرب وقاسم محمد من العراق، ولكن هذا النجاح لم يستمر طويلاً، إذ سرعان ما مرّ وانطفأ بفعل مرحلة تاريخية ذات طابع ايديولوجي معلن في العودة الى التراث وكيفية كتابة التاريخ. والطريف المحزن في عروض المخرجين المذكورين، انهما كتبا نصوصهما كنصوص اخراجية او ما يسمى بـ "السكريبت" المسرحي، ولم ينشرا تلكم النصوص في مؤلفات او سلاسل مسرحية، كما اشتهر لدينا او لدى العالم اجمع، الا من محاولة واحدة للراحل قاسم محمد في نشر مسرحيته المعروفة "رسالة الطير" في مجلة "الرافد" الاماراتية التي تعود مرجعياتها الى كتاب "منطق الطير" لابن العطار الاندلسي. ومع ذلك نجد لزاماً علينا ابداء الملاحظات التالية حول انطولوجيا المؤلف المسرحي في العالم:
* قيل عن الشعب النرويجي بان هنريك ابسن هو الممثل الاوحد للأدب المسرحي في النرويج، وفيهم من قال، هو بعض من الادباء النرويجيين وليس من قمتهم.
* وحكي عن اوغست سترنبيرغ بانه المجلّى في الادب السويدي، وقد حكي عن بعضهم انه طارئ، وعن بعضهم الآخر بانه ليس بطارئ. ثم اختلفوا فمنهم من قال: قد يوجد سترنبرغ في غير السويد، ومنهم من قال: سترنبيغ هو السويد!
* ومنهم من احال ادب انطون تشيخوف المسرحي في روسيا القيصرية الى الواقعية النقدية التي تدعو الى امل الخلاص من اسرة "آل رومانوف" والقضاء على المفسدين والمعربدين الذين يوجدون في قياداتها وزعاماتها.
* ومنهم من جعل نصوص فيديريكو غارسيا لوركا المسرحية حروفا في ارض اسبانيا الاندلسية القشتالية، ومنهم من زعم ان اغاني الغجر وموسيقى الفلامينكو هي المرجعيات الحقيقية في ابداع هذا المبدع.
ان هدفنا في هذه المتابعة الانطولوجية، هو الوقوف على ابرز المؤلفين المسرحيين ضمن خطاطة حافلة بالاسم الريادي الاول، في زخم الاسماء والمترادفات والتعددية، كما تعارف عليها العالم في التأسيس والريادة اولا، وفي الصفات والاحوال ثانياً، إذ إن للفنان المبدع الاصيل كما يقول يونغ شخصيتان، شخصية عادية ككل انسان، واخرى فنية، ما ان تتجسده حتى يصبح متحدثا باسم البشرية جمعاء.
في ضوء ذلك، كان وليم شكسبير الكاتب الاليزابيثي الاول في انكلترا، على الرغم من كتّاب عظام في عصره، امثال كريستوفر مارلو وبن جونسون وتوماس كير وروبرت غرين، وآخرين ممن تبعوا عصره بقرون كثيرة. ومنهم جورج برنادشو وترانس راتيجان وبيتر شافر وهارولد بنتر، في تساوق مع ريادة "غوته" في عمله المسرحي الكبير "فاوست" التي لم يستطع كتاب المان محدثون تجاوز صدمته، الا برتولد بريشت بعد قرون اخرى.
كذلك الامر بالنسبة الى فرنسا واسبانيا وايطاليا وروسيا وامريكا، اذ لم يكن بالمستطاع تجاوز راسين ولوركا وبيراندلو وتشيخوف وآرثر ميلر، على الرغم من وجود موليير وهيجو وسلاكرو وكامو وجيراردو وجينيه في فرنسا. ودي لاروزا وبايخو واونيل وسارويان ووليامز وآلبي في امريكا. اذ لا اعتراض على هيمنة راسين الفرنسي ولوركا الاسباني وبيراندلو الايطالي وتشيخوف الروسي وميلر الامريكي على اغلب المنصات المسرحية في العالم. وحتى مسرح العبث واللامعقول الذي ظهر في خمسينيات القرن الماضي بشواغل مؤلفين من جنسيات متعددة، ومنهم اللبناني جورج شحادة، والروسي اداموف، والروماني يونسكو، والاسباني أربال والايرلندي بيكت، حتى اعتبر الاخير من الصدارة بمكان وعدت مسرحيته "في انتظار غودو" على القائمة الاولى من افضل مائة نص مسرحي في العالم خلال القرن العشرين.
من هذه المنطلق نأخذ في عين الاعتبار النماذج التأليفية المسرحية في العراق ومصر وسوريا، كعينات سريعة في خطاطتنا هذه، بعد ان شاع في هذه البلدان بشكل واضح قواعد التأليف المسرحي ونصوص المسرح الخاصة بالمنصات المسرحية اكثر من البلدان الاخرى. ففي حين ظهر في العراق شهاب القصب ويوسف العاني ويحيى ق وموسى الشابندر من الرواد، وجيل اعقبه ببضع سنوات هو ما يعرف لدينا بجيل الستينات، امثال طه سالم ونور الدين فارس وعادل كاظم وجليل القيسي ومحيي الدين زنكنه وعلي حسين البياتي. ثم تلاه جيل شبابي آخر ومنهم فلاح شاكر وعباس الحربي وحنين مانع وزيدان حمود وعلي عبدالنبي الزيدي وعبد الخالق كريم وسعد هدابي ومثال غازي وغيرهم. الا ان الاستاذ الفنان عادل كاظم اثبت جدارته واستقلاله بين هذين الجيلين، فشق طريقه الخاص من خلال تعميق ثقافته وتوسيع ثقافته والانهماك على نصوصه وتطوير ادواته، لا ليرتقي الى قمة من سبقه امثال الاستاذ الرائد المسرحي يوسف العاني الذي ظل مخلصا لواقعيته النقدية وملفوظة البغدادي القديم، بل انه بز زميليه الاثيرين الراحلين جليل القيسي ومحي الدين زنكنه لاعتبارات ايديولوجية وفنية بفعل المقص الحاد لدائرة الرقابة مرة وللمزاجية المريرة لشواغل المخرجين العراقيين مرة اخرى في التعامل مع نصوصهما المسرحية.
فاذا ما توجهنا الى سوريا، فإننا لا نجد الا سعد الله ونوس وممدوح عدوان وعلي عقلة عرسان وسعد فضة وفرحان بلبل ووليد اخلاصي، وجميعهم كان ينتقل بين الحلم والواقع ويقيم بينهما نوع من التواصل او الفنتازيا، عدا الراحل سعد الله ونوس، الذي يقف بين هذا الجمع متفردا عبقريا في لملمة "مسرح المقهى" والاحتفالي وهو بين كل اقرانه السوريين رجل مسرح بحق، اذ النص المسرحي لديه ينتهي من حيث يبدأ، او من حيث ينتهي او حيث لا بداية ولا نهاية.
اما في مصر، فاننا لا نعرف حقا الا مسرحيات نعمان عاشور التي سار على نهجها "التراجيدكوميدي" رشاد رشدي وعلي سالم والفريد فرج وسعد الدين وهبة ومحمود دياب في مراحل الخمسينات والستينات والسبعينات من القرن الماضي. إذ حولها وخلفها يتعلق بالمسرح الاستعراضي لفايز حلاوة وتحية كاريوكا ثم مسرح عادل امام ذي الصبغة التجارية المعلنة، ومسرح محمد صبحي ذي المسحة السياسية الانتهازية الواضحة، ثم مسرح فيفي عبدة الراقص الماجن.
اخيرا، يدعونا النص المسرحي من خلال اجتهاد وموهبة المؤلف المسرحي في اي وطن للدخول في مغامرة اكتشاف الكون واكتشاف الذات، الذات التي لا تعرف اين تنتهي حدودها.

عرض مقالات: