تشكل مفردتا "الحضور والغياب" في اللغة الشعرية، وضمن الانسياقات الدلالية تحفيزاً متماشياً مع البوح الذاتي الذي يمنحنا حراكاً مغايراً على وفق الارساليات الخطابية، فـ "الحضور" - مكانياً وزمانياً - له تجسيمه المتواجد فعلياً وضمن انزياحات متوالية، بينما "الغياب" نقطة التضاد التي تحيلنا الى التخييل لما هو أبعد، لتمنحنا المتبقيات، آخر ما نشعر به من ثرثرة الهذيان.
"
ألواح الحضور.. ألواح الغياب" للشاعر علي حسن الفواز وبما تحمله من سمة "الإهداءات"، والتي نجد فيها الشاعر وهو يعتمل لواعج الاثنينية التي كانت تحزّه، ما بين "الحضور والغياب" الحياة والموت، الحرب والسلام، الوطن والمنفى، الرثاء والمديح، تعلّق "الفواز"، الحضور الذي كان يعني له الشيء الكثير – حياتياً – وبين الغياب، الذي هشّم لديه كل الصور والمرايا ذات البعد النفسي، "الفواز" بخطابيته هذه ذات المستوى الواحد بين قصائده، اعلن عن اتساع الجهات والأوهام والأخطاء وغوايات تعطّلت عند الوطن المغلق، بلغته التي اخذت حيزاً متناسقاً مع تحريكه الدالّ بانسيابية منبسطة، هو يرى العابرين ينتقلون الى الجهة الاخرى، دون أن يمتلك القدرة على ارجاعهم، بعد أن وجد الزوايا متخمة بما تبقى من الاحلام المغسولة بالتوديع.
اذ تركض فينا، ونركض فيها
تعلمنا كيف تضيق الارض
عندما تتكسر الزوايا، ويتسع السواد
كيف تضيق الروح بموتاها ، موتانا ؟
اذ يفرش الوهم سجادة او بساطاً.
بهذه التأملية الضاغطة نفسياً.. يقف "الفواز"، مستحضراً كلّ ما يكون له متنفّساً عما يلاقيه، فالحياة بمتناقضاتها وفّرت له المناخات التي لم يجد منها مفرّاً سوى "الركض" اداة للخلاص واللهاث النافر، وضمن دلالة متماهية بتشفيرات بين الغائب والحاضر "تركض فينا، نركض فيها"، فالأرض تضيق، وهذا الضيق المكاني يعطي لنا شمولية انعدام التحمّل والتنفس، وهو يحيلنا الى غيابات معطلة، وأسئلة يتكسر على عتبتها الحضور، مما يؤدي الى اتساع رقعة "السواد" اللون الذي يتوافق مع مفردة "تضيق"، وهو لون ملائم مع شيوع الغياب "كيف تضيق الروح بموتاها، موتانا"، ليخلق من الوهم صوراً تجسيمية لمتخيلات تقع ضمن بؤرة التوهّم.
أيها الحي البعيد،
الميت من الضحك، والضاحك من الموت.
ها هي البلاد المحاربة، الشائهة،
تحضر اسماءها للتدوين والتوابيت
والحروب الفاحشة،
تؤنث الهيجان لذكورة طائشة
وأغان لم يعد يرددها احد.
الاختزان الذهني المحاصر بالسعادة والرثاء وبالتضادات الحياتية، والمرهقة بأسئلة لم تزل مبهمة في سؤالية الفراغ، "الفواز" يشتغل وضمن رقعة مفتوحة، مغلقة، فهو قادر على سبر اغوارها في دهاليز ضاجّة، اشتغالاته على وفق تحريك "التضاد" و"المتناقض" لغوياً، كي يجعلنا نتحرك ضمن مداراته، نلاحظ "أيها الحيّ البعيد، الميت من الضحك، والضاحك من الموت، تحضر اسماءها للتدوين والتوابيت، تؤنث الهيجان لذكورة طائشة"، يعرف كيف يتعامل مع الحضور والغياب بأنساقها الدلالية الايحائية، وحسب ادراكيات التأثير الانعكاسيّ المهيمن عليه باطنياً، فهو يلقي اللوم على مسببات ذلك.. من الحروب التي طحنت يافطات البقاء.
كان الوطن كالحانة باردا، نعسانا
لجوجا في السكرة والمدائح،
وكان الحمقى السكارى يركضون الى اليافطات
من كل هذيان عميق
كنت تضحك ببلاهة غريبة،
تكتب ما تشاء عن الوطن والنساء
والديوانية ورقّاع عفك ورؤساء التحرير،
لقد مثل الشاعر الراحل كزار حنتوش لدى "الفواز" صورة دلالية أعمق من أن يسعها فضاء محدد، وهي صور عالقة في ذهنية المخاطب الذي يرى في "حنتوش" ضياعات وطن، وانكسارات ظلّ ما زال يتدفق في جغرافيا مكانية، سرت في كتابات الراحل، "الوطن، النساء، الديوانية، رقّاع عفك، رؤساء التحرير" كل شيء كان له حضور عنده، مال الشاعر "الفواز" الى تركيب "من كل هذيانٍ عميق" وهو يمثل تضمينا قرآنيا مقتبسا بتصرف" من كلِّ فجٍّ عميق"، لما تمثله مفردة "هذيان" من عمق دلالي ايحائي لباطن متخمٍ بأسراب من البوح المتناسل.
لأنه الأبيض، والأكثر غواية
على فداحة السواد
جاء بالغابة والنهر والنجوم
والنساء الى شوارعنا العامة