لم تعد القصّة مجرّد سرد حكايةٍ اجتماعية أو حتى متخيّلةٍ أو مستلّةِ من الواقع.. القصة روح لمن يريد أن يكتبها عليه أن يجسّدها داخل جسدٍ من المهارة والفتنة والاتقان والمقدرة التدوينية التي تستطيع جعل المتلقّي في حالة دهشةٍ واندهاشٍ من عوامل عديدةٍ تتجسّد في القصّة.. أوّلها معرفة خفايا وزوايا القصّة وطريقة القبض على اللحظة التي تمنح الدهشة.. وهو ما يمكن أن يعطي للغة قدرتها التدوينية التي تجعل القصّة ليست فكرةً مجرّدةً، بل هي انعتاقٌ من أجل طرح موضوعٍ مهمٍّ في الحياة ومناقشته.. واللغة عامل من العوامل وبها يمكن أن تجعل روح القصّة دائمة الحضور ومن خلالها يمكن أن تجعلها تموت قبل أن تشهد ولادة اكتمال قراءتها من قبل المتلقّي.
في مجموعة القاص المصري عبد النبي فرج "يدٌ بيضاءُ مُشِعَّة" نجد هذه الروح وقد اعتلت ونوّهت عن ولادتها من خلال اللغة القابضة على محمول السرد، وجعلها تنطلق من كونها دليلا على معنى الفكرة الى دلالةٍ تفضي الى القبض على الدهشة التي تمنحها الفكرة ذاتها.. حتى إن العنوان ركّز على ديمومة الفعل وتوصيفها من خلال صفة اليد البيضاء من كونها مشعّة.. ولذا فإن العلامات الدّالة على قدرة اللّغة على تكوين أداوتها أو ولادتها من رحم التدوين، هو أن القاص يبيّن مقدرته اللغوية من خلال تحريك المفردات في سكونها وتنوينها وضمّها وفتحتها وكسرها.. وكأنه يُعطي لسانية اللّغة صوتها، ويُعطي صوت اللّغة مفعولها الدلالي ويُعطي دلالة المفعول غائية السرد.. لذا فإنه انتهج هنا في موضوعة العنوان طريقا أسهل لقيادة الفكرة حين جعله أي العنوان يرتكن الى واقعيته.. ليقول إن قصصه واقعيةٌ وإن تدوينه سردي وإن القصّة ليست كان يا مكان وإن أخذت من الواقع، بل هي واقعٌ محمولٌ على اكتاف السرد، وسردٌ غائصٌ في الواقع.. فالعناوين تشي بهذا رغم إن عنوان المجموعة مستلّ من القصّة الخامسة من بين إحدى عشرة قصة، وكان بالإمكان أن يكون العنوان جامعا للنصوص القصصية كلّها، على اعتبار أن العنوان الآن عتبةً كليّةً للكتاب، إلّا إنه يمكن اعتبار هذه القصّة موجّها عاما كونها عنوانا للمجموعة وكونها جاءت في منتصف القصص وكونها حملت مهمّة حمل انفتاح الفكرة على السرد وتنظيمه ليُعطي حكايةً، وإعطاء الحكاية لتكون متنا لغويا مهما.
إن نظرةً فاحصةً وعامّة على العناوين الأحد عشر سنجد إن منطوق الواقعية واضحٌ في العمود الفقري للنصوص، وهي الحكاية التي يريد مناقشة فلسفتها أو تأويلها أو محصولها القصدي أو كمية الغائية التي تنتجها اختيار هذه الفكرة من دون غيرها.. فقصص خزي وعري وعراء والممثلة ويد بياض مشعة وكذلك السيدة ذات القرط وسعدية الغازية وليل رجل هرم وايضا عباد الشمس وغيلة وأخيرا كهل في حقل التين هذه عناوين تعطي من النظرة الأولى إن ما يأتي بعدها قصصٌ واقعية.. ولكن السؤال.. كيف كانت البنية الكتابية التي انتهجها القاص فرج؟ هل جعل الواقعية تتحكّم في مسارات النصوص؟ هل ترك مهمّة الفكرة هي المسيطرة على عملية التدوين وقراءة المستويات؟
إن ما يميّز البنية الكتابية هي سيطرة اللّغة على فعاليات القص.. هي التي يسيرها القاص في الاتجاهات التي يرسم لها أسهما لتنطلق فيها دون الإخلال بعناصر القصّة.. وعلى الرغم من إن البعض من القراء يريد فهم القصّة على إنها حكاية ولكن المهم هو أن يكون القارئ متلقّيا فاهما عارفا باحثا عن مبدأ التشويق، ليس في بدايات القصّة ونهاياتها على اعتبارها مستلّة من الحياة وتعطيه مفعول المناقشة في واقعيتها من عدمها، بل أيضا في حيثيات خلق القصّة ذاتها.. لأنها تحتوي على مستوياتٍ تأويلية وفلسفية قادرة على بثّ المناقشة وطرح السؤال.. لماذا هذه القصّ؟ وما الذي قدمته؟
تبدأ القصص بمستوى إخباريا.. وهو استهلال غائي يعتمد على ما يأتي بعدها من بناء الجسد الكليّ .. وهذا المستوى هو مفتاح الدلالة الأولى ما بعد العنوان .. فلو أخذنا القصة الأولى "خزي" سيكون الباب الموارب للدخول الى باحة القصّة وغرفها، وكأنه شيءٌ اجتماعيٌّ واقعيٌّ يرتبط حتى بالأعراف والقيم.
"
كان يعلمُ أنَّ قضاءَ اللهِ قد نفذَ, ولنْ يمرَّ الليلُ إلاَّ وقد سمِعَ طلقًا ناريًّا يشرخُ الفضاءَ، وتخرجُ رصاصة صفراء لتنغرسَ في صدرهِ, أو تُفجِّر رأسَ ابنه وينتهي أمره" إن هذا الاستهلال فيه تلاعب في اللّغة.. فهو يعتمد الإخبار.. إنه يعلم قضاء الله.. ولن يمرّ الليل.. بمعنى إنه جعل الحالة مستقبلية بوجود إيمان بالقضاء ولكن الفعل، فعل الطلقة كان حاضرا لأنه جعل المفاضلة بين نهاية الرصاصة أن تكون في صدره أو رأس ابنه.. وهو بهذه الحالة يدعو المتلقّي الى معرفة تفاصيل النصّ من خلال تراكم المفردات التي تقود الحدث.. الذي سيكون أيضا بذات الطريقة الإخبارية، ولكن هنا يتدخّل المستوى القصدي مصحوبا بالمستوى التصويري، حين وصف اللّيل والغرفة ونوم الزوجة.. الفعل المستقبلي الذي يجمع الماضي والحاضر ليكون له ما هو آت في التلاعب اللغوي.. وهنا يُعطي لحظة ترقّبٍ حين يبدأ ببث السؤال القصدي "ثم برق في رأسِه سؤالٌ: والجثَّة؟ أريدُ الجثَّةَ, أريدُ أن يُغَسَّلَ على شرْعِ اللهِ, ويُصلَّى عليه, وأعرفُ له قبرًا، أزورُهُ معَ أولادِهِ وزوجتِهِ وأُمِّه المَسْكينةِ" هو يستبق الأحداث.. لا يعطي لموضوعة القصة تصاعديتها ولا يبدأ من لحظة انطلاق الرصاصة مثلا أو لحظة ارتكاب الجريمة، بل من لحظة الترقّب لما سيحصل.. لأنه لا يريد أن يكون الفعل حاصلا بقدر ما يريد مناقشة الفعل قبل حصوله.. والقاصّ فرج في كلّ قصصه ينتهج هذه الأسلوبية التي تعطي قدرةً كاملةً وناضجةً على ماهيّة القصّة وطرق تدوينها.. ولهذا فهو يبدأ استهلالا إخباريا تساؤليا عن فحوى الفكرة، ومن ثم يجنح الى اتخاذ المستوى التصويري لإعطاء قامةٍ جميلةٍ للقصّة، باعتبار إن وصف الأشياء مدخلا من مداخل التشويق التي تعتمد عند فرج على اللغة ذاتها المتفجّرة السائرة وفق ضربات سريعة بجملٍ قصيرة.. "وسحبَ علبةً صغيرَةً مُربَّعةً لونُها أحمرُ, مطبوعٌ عليها رجل وامرأة, الرَّجلُ في غاية القوَّةِ، والثقة بالنفس, والمرأةُ في وضْعِ إغراءٍ تكشفُ فيه عن تفاصيلِ جسمِها المُثير، تناولَ شريط برشام, وفضَّ واحدةً وقذفَها داخلَ فمِهِ, والتقطَ زجاجةَ نبيذٍ وشربَ عدَّةَ دُفعاتٍ مُتتالية". هنا نلاحظ كيفية التلاعب بين المستويين التصويري والإخباري وانتهاج اللّغة لتحمل ضربتها السريعة الملائمة للقصّة القصيرة التي تريد إعطاء الدفق المعنوي لإيجاد قامتها.. ولهذا فهو حين يريد إراحة المتلقّي من التمعّن باللغة وتراكيبها وضربتها السريعة يلجأ الى الحوار بالعامية المصرية.. لسببين.. أولها لمنح الشخصية وضوحا أكبر.. وثانيهما لجعل الحوار أقرب الى المتلقّي، على إن ما يقرأه واقعا.. ليستجمع السببان وينتجان متنا سرديا رغم إن الحوار لا يكون متواجدا في جميع القصص ولكنها أي الخالية من الحوار يكون فيها الحوار متعامدا مع استخلاص الدواخل عبر المستوى التحليلي الذي يعطيه القاص على لسان شخصياته.. "أنا لنْ أعيشَ إلى الأبد, ولكنْ أنا إنسانٌ ضعيفٌ وبائسٌ وأستحقُّ ما أنا فيه، مُكبَّلٌ بالدِّيون, رغم أنَّ الدَّائنينَ, لم يُطالبوني مباشرةً, ولكنْ كانت نظراتُ العيون, والازدراءُ المبطَّن بكلامٍ ناعمٍ وخبيثٍ, سمومًا تُنْفَثُ, الغرض منها مصلحتي "شوف أكل عيشك، عايز تاكل عيش, شيل الكلام الفارغ دا من دماغك الوسخة".
إن تنوع أساليب السرد في هذه المجموعة لم يكن اعتباطا أو إنه غاية سردية لتعقّب أشكال الفن التدويني، بل هي خاضعةٌ لمكوّنات الحكاية التي تختار هي شكلها، سواء تلك التي كتبت بطريقة الأنا أو المخاطب أو الغائب.. وهي طرقٌ تُعطي قامة التأويل حضورا بحسب اختيار الشكل لبناء النسيج العام للقصّة.. خاصة وإنه في أغلب القصص لا يبدأ بفعل ماضٍ بل يبدأ بإخبار الحاضر عن شيء ماضٍ وإنه يريد من المتلقي البقاء معه لإكمال الحكاية التي تقع في فعل ماضٍ لكنها مدونة بفعلٍ مستقبلي أو حاضر يرتدي لباس الترقّب.
أنها مجموعة تبحث عن متلقٍّ يدرك معنى اللغة.. لا يبحث عن حكاية.. بل عن سؤالٍ قابضٍ على حصاد فلسفةٍ بعمق قصّة.

عرض مقالات: