إشارات

التوظيف يعني إعادة ربط الصورة المعاصرة بما يجاورها في متن الموروث، لذا يتطلب الأمر الابتعاد عن صيغة النسخ لما هو مُعين على صعود النص الجديد. وفي هذا الضرب من الممارسة في الكتابة؛ تعددت خلاله الرؤى، واستعادت النصوص الموضوعة عافيتها، لأنها اقترنت بنصوص سابقة لها محمولاتها الرمزية، سواء كان تأثرها بالمعاني الواردة فيها، أو أنساق الكتابة، بما نطلق عليه المجاورة، والابتعاد عنه في رفض أن يكون النص الجديد ظِلاً أو نسخة من الموروث مجسداً في الابتكار. فالصيغة الأساسية التي تجاور بلاغة النص؛ هي اختيار المسار الجديد، وعدم المراوحة في نقطة واحدة. بمعنى لابد أن يرافق المجاورة الابتكار وتحقيق الرؤى الجديدة. وهذا ما وجدناه في نص الروائي لـ نعيم آل مسافر الموسوم "أصوات من هناك. ولعل فاتحة الرواية، أو عتبتها الأولى "العنوان" تشير إلى مستويين من الدلالة؛ الأولى: إن ما يرد من مرويات في النص تنتمي إلى أزمنة سابقة، والثانية: إن متوالية نصوص الرواية هي سيرة للجماعة في زمن سابق وقريب. وثالثاً: إيجاد مقاربة بين ما يدور في المتوالية، وبين مفردات الموروث القريب والبعيد. وكل هذا يصب في كوننا إزاء مرويات متعددة، تتخذ لها أصواتا بصيغة جديدة ضمن رواية متعددة الأصوات. هذه المرويات تتعلق بسيرة خاصة وعامة. لاسيما كونها بخاصة تروي سيرة عائلة، وعامّة كونها جزء من منظومة كبيرة هي المجتمع. فالرواية وإن تناولت مبنى أنثروبولوجي، إلا أنّها توسعت وهي تشق محيط دائرتها، مقتربة من صياغات التاريخ، ولكن برؤى مختلفة عن قريناتها. فلا نص بدون قرابة مع التاريخ. لكن الذي يختلف هنا ؛هي الكيفية التي يتم خلالها توطيد هذه القرابة. إذ لهذا علاقة بوعي التاريخ ومؤثراته، ثم طبيعة الأحداث والميكانيزم الذي سارت عليه. فالعتبة على بساطتها، إلا أنها تتضمن إشارة إلى زمان ومكان، فالأصوات خطابات تنطوي على كيفيات وأهداف مشتقة من طبيعتها ؛ هل هي أصوات احتجاج ؟ أو هي خليط زماني ومكاني؟ نرى أنها تجتمع على التعبير عن مثل هذه المحاور.
أما "من هناك" فالأمر واضح في إشارته إلى نمط الابتعاد عن الزمن الذي تروى فيه الحكايات. ولهذا صلة بتأويل العبارة "زمانية ومكانية" سواء تلك الأصوات، أو حراك المتون التي جاءت بها المروية "الرواية" ككل.

البنية الفنية للنص

لما كان الإطار العام للرواية يتّبع توالي النصوص وفق تركيبة تراثية، تتمثل حكايات الليالي، ضمن تشكيلتها السردية. وهي وحدات حاول الكاتب أن يربط مفاصلها بطريقة فنية، دفعه إلى استحداث نمط التوالي في سرد الحكاية، هي الإشارة والنيابة والتوالي. بمعنى كل نص فتح مجالاً واستهلالاً لنص لاحق. لذا فقد اتبع الروي نمطاً في كتابة السيرة، والتوالي هذا اكتفى بصيرورته السردية إلا أنه كان بمثابة خلق تراكم كمي أدى إلى تراكم نوعي، تحصّل في كتابة عائلة القرية، الأمر الذي تطلب ذهناً يقضًاً لتلافي الشرخ في المروية. وهذا كما نرى فتح الأُفق الواسع لابتكار صيغة ذاتية بالرغم من تجاوره مع نص سابق هو نص "ألف ليلة وليلة"، فغدا هذا الإطار محفزاً لإنتاج سحرية النص الجديد دون تكرار الحكايات أو مجاورة أُخرى بالتفاصيل. فقد كان النص مستقلاً في معناه وحكاياته، بينما الإطار العام ما يقربه من النص السابق. كان الابتكار سبيل للابتعاد عن نص الليالي بالرغم من بلاغة نصوصه وسحرها، قصد خلق نص مستقل ومكتف بذاته. فقد حقق النص مرائي عديدة، لعل أهمها :
ـــ إن لغة الروي في النص، تميّزت بالبساطة وعميق الدلالة، حيث شقت طريقها وسط التواءات مفاصل التاريخ، لأنها كتابة سيرة القرية وما جاورها من كتل ساسة. فهي لغة تقترب من طبيعة الشخصيات، وطبيعة الأحداث، ثم مركز الحكاية الأم. إذ حققت قرابة منطقية وأسلوبية فيها شعرية متدفقة. منطلقة من شعرية السهل الممتنع. كما وأنها جاورت أنساق التداول الشفاهي في مجالس الريف. فالذي نستخلصه من قراءة النص؛ أن المؤلف ترعرع في حاضنة المجالس التي هي مدارس في المفهوم الشعبي، فأكسبت لسانه بلاغة شعبية، تداخلت مع جسد لغة السرد وشكّلت معمارها. فهي لغة مسموعة ومألوفة، لكنها مكتفية ببلاغتها الذاتية ومحمولاتها الدلالية.
ـــ طغيان الاحساس بصيرورة الحكاية، حيث استدرج وعيه الفطري "الريفي" وأسبغ عليه نوعاً من الغرابة المتحكم فيها المنطق. الكاتب انطلق من معارفه البدئية، ولم يخضع لوعي صاعد. بمعنى وعيه الطبقي وهو ينشأ ويترعرع في كنف تاريخ القرية، متجاوزاً عقدة التفاخر والاطناب لعكس الانتماءات المركزية لسيرته التي هي سيرتهم جميعاً.
لقد اكتسب دربة "القصخون" من توالي الحضور في المجالس، فانعكس على سيّر مرويته. فقد كان راوياً حيادياً وهو يتعامل مع مفردات التاريخ. إذ حقق معادلاً موضوعياً في ما كتب من سيرة، بالرغم من تشابك فواصلها إلا أنه يعي علاقاتها الذاتية والموضوعية، وحقيقة تاريخ الجماعة. فلم تغلب عليه لغة الحماسة في ما يخص التناول والغوص في المسكوت عنه في سيرة القرية.
ـــ واضح في ما احتواه النص متمثلاً في شدّة تماسكه، وتوفره على نسيج شعبي، مسايراً في هذا نمط السيرة الشعبية. وهي مهمة ليست بالسهلة، إذ تستوجب أولاً: وعياً صاعداً في تاريخ البنى الشعبية، وفي هذا كان الراوي متمكن من هذا الضرب بسبب انتمائه لمتن التاريخ الشعبي. وثانياً: بدا الراوي مسكوناً بكل متطلبات وعي صيرورة الثقافة الشعبية في بيئته الريفية "البرية والمائية". فوعيه للبنى الشعبية كثقافة ورؤى قارّة، ادت به إلى تمثل كل الروافد التي من شأنها اغناء بناء النص.
ـــ التوفر على بنى متخيلة، بمعنى يمتلك المؤلف خيالاً درب عليه ذائقته وذاكرته، وهو ضرب من وعي ابن الريف الذي تمثل محتوى حكائي واسع، وبلاغة ضاربة في عمق النفس الإنسانية الشعبية بما اصطلح عليه "الحسجة". ففطرية رؤاه وصعود وعيه المكتسب "معارفه" المدنية، أهّلنه للامساك بمقوّد النص بحذر واضح في عدم الابتعاد عن صيرورة الوعي البدئي. فقد وازن بين وعيه الفطري "البيئي" ووعيه المكتسب "المعرفي".
أعتقد أن هذه المعادلة في السرد من أصعب المهمات. لكن "آل مسافر" كان أكثر حذراً في قيادة وعييه هذين، وفق رؤى متوازنة ومتعادلة.
ـــ التناوب في الروي، خاصية مكتسبة من كتاب الليالي كما ذكرنا، لكن تناوب الرواة والراوي المركزي قد خلق مناخاً تمكّن الرواة خلاله التحكم في مفاصل مروية القرية، صعوداً إلى خلق مروية موحدة، وما وحدّها كونها "أصوات من هناك" و. ولم تُحدد "هناك" بل فتح لها أفقاً للتجوّل في رحاب الموروث، مستلاً منه شذرات تُفيد الكتابة، هي بمثابة علامات للدلالة. وهي علامات تنتمي إلى أزمنة متباعدة، لكنها تصب خلال دلالتها في النص المركزي.
ـــ لقد استطاع المؤلف أن يوّحد الأصوات، ويدعمها بما توفرت عليه ذاكرته المعرفية والبيئية، ليمنح نصه وحدة متماسكة، كان في بنائه حذراً من الاسفاف والخروج إلى ما لا يتوّجب الخروج عليه.
ـــ تعميق أسس المكان "قرية الجدي" واجتماع الأمكنة الأخرى في رفد حراك المكان الأول "تل ساسة".
ـــ بدت الشخصيات في النص ذات عمق طبقي خالص. فهي معبّرة عن انتمائها الذي أكد نزوعها للمشاركة وتعميق مسار النص. أو أنها تُسهم في خلق مجال أوسع ومغاير لما هو سائد من حراك أُسري واجتماعي.
ــ أنسنة الأشياء، أي جعلها لا تختلف في وجودها عن إنسانية الأصوات الأخرى. وهذا راجع كوّن النص يعمل على سرد وروي التاريخ، والأمكنة والظواهر تواريخ المكان، وأمر اقترابها من لسان الإنسان، يعني إنابتها عنه وفق مجريات ذاكرتها. فالأمكنة تاريخ، وسردها ورويها له علاقة بالمخيّال، سواء في الروي أو السرد.
ـــ تحقيق اللذة، في الروي، الذي انسحب إلى لذة المقروء. واستجابة وحداته للبنية الأساسية في النص، كوّنه قطعة نصية استجابت لكل تشكيلات وعي الواضع على صعيديه "الوعي الفطري والمكتسب".

عرض مقالات: