تتنزه ورقتي في أهداب نص، في ق.ق. ج (لم أكن نبيا) للقاص خلدون السراي ومنها إلى القصص وما حواليها..

(*)

يستوقفني اسم المؤلف المثبّت في نهاية المجموعة : خلدون خالد : هذا التجاور الصوتي والمعنوي المنسجم بجماليته، يمنح المؤلف بصمة تسموية لا شبيه لها ..أما خلدون السراي فيحيلني إلى أديبين عراقيين في بغداد : الشاعر والإعلامي عمر السراي والقاص والإعلامي حسام السراي .

(*)

لوحة الغلاف تشتغل على مستويين :

(1) الجمالي

( 2) التاريخي

المستوى الأول : المحبة  تتحدى القسوة: الوردة الأم  تتصالب بورداتها الأربع فوق الصليب ،وفي نقطة مركزية، وهناك الوريقات الخضر التي تستقر الوردة فوقها. بياض الوردة ليس عفويا، بل بقصدية دامغة للقسوة وينوب عن الأحمر : الوردي في الزهرات الأربع، وهنا تبزغ في ذاكرتي ثلاثية هنري ميلر (الصلب الوردي) ترجمة أسامة منزلجتي/ دار المدى/ط1/ 2004

 المستوى الثاني : يتجذر مسيحيا في طائفة (أخوية الوردة +الصليب) إفشاء عقيدة هذه الأخوية في 1614 حيث اصدر القس اللوثري فالتنيوس أندريا ثلاثة كتب تخص هذه الأخوية ملخص الثلاثية : التصدي للتشويهات والهجومات التي لحقت هذه الأخوية خلال ثلاثة قرون، فالمؤسس الحقيقي للأخوية يرمز له بحرفيّ C.R وهو مولود في 1378 وهو صاحب عقلية معرفية كبرى، ترك أوربا وقصد دمشق تعلم الحكمة المشرقية وترجم ، وكان له حواريين، يكتبون الكتب مثله ويحذفون اسماؤهم كأنهم أخوان الصفا وخلا الوفا وترميزتهم الكبرى خمس دوائر :أربع على شكل صليب والخامس يحيط الأربع . في مدوناتهم : حذروا العالم من غرور العلم .

(*)

العنوان نصيص – كما علمنا محمود عبد الوهاب – وفي  هذه الثريا النصية ثمة شفرة شفيفة.. لاتخلو من استفزاز المتشددين (لم أكن نبيا) كأن المؤلف ينفي تهمة لحقته / لحقت به، لكن قفا الكتاب يمنحنا مفتاحا بصيغة تقويم مقدس خاص بنخبة النخبة، ويتقاطع التاريخي مع الميداني، ويتسق مع منطق الفيلسوف هيغل الذي يؤكد أن التاريخ يكرر نفسه. لكن تاريخية الشاعر بنفسجية الأنزياح وهنا جمالية الشعري وتفوقه على الوقائعي  يقول نص الشاعر خلدون :

(تكررت أخطاء التاريخ

أرى أكثر من يسوع مصلوبا

ذابت عينا يعقوب

احترق جسد إبراهيم

التقم البحر يونس)

هنا نصٌ مكتمل ُ بتضاداته اللذيذة، هنا لدينا أربعة صلبان، إتساقا مع الوردة +الصليب، ولابد من صليب خامس كبير يحتوي الأربعة، وهكذا يكون نسق المتعدد في الواحد، وسنشعر أن المثال الأعلى الرباعي : يسوع / يعقوب/ إبراهيم/ يونس هم(أولاد حارتنا) العراقية بشهادة الشاعر خلدون الذي جعل من نصه المكتمل الذي قوسناه، بوظيفة عتبة نصية للنص الرئيس وهو التالي :

(ضاع وطني عند غروب الشمس) وما بين القوسين قصة قصيرة جدا حين نستعين بالناقد روبرت شولز وتحديدا في كتابه (سيمياء التأويل) ترجمة سعيد الغانمي.

فقد كتب َ شولز دراسة ً مستفيضة عن النص الصغير التالي

                           : (مرثية أقرأها لمن )..

أعود إلى نص خلدون .. وهو نص مرواغ فهو يتكامل حسب خبرة قراءات القارىء

وشاهد عدلي أن السطرين الأخيرين : يمكن اعتبارهما ق.ق. ج.. مِن سطر واحد

(عندما استيقظت، حمدت ُ الله اذ لم أكن نبيا) في هذا السطر القصصي يجري تشاركا مع فطنة القارىء: لماذا الحمد؟ هل كان المتكلم يسرد حلما؟ كابوسا ؟

وفعل الحمد يعيدني إلى المعلم بوذا في قولة ٍ له، تتصدر كتاب زهير طحان(هكذا تكلم بوذا / دار صادر/ 1965) يقول بوذا : حمدا لله أنني لست خالق هذا العالم، أن منظر هذا العالم يقززني )

(*)

تتعدد تراتبيات أو ميكانيزم القصة القصيرة جدا، لكن من خلال قراءتي أثّبت هذه الملاحظات

  • ثمة تجني نقدي عربي بحق الجهد العراقي،في الستينات نشرالقاص خالد الخميسي مجموعة قصص قصيرة ( الملوثون)ولم يجنّسها قصص قصيرة جدا وكانت بمقياس  قصص قصيرة جدا، وكذلك فعل القاص والروائي أحمد خلف في مجموعته القصصية(نزهة في شوارع مهجورة)  الصادرة في 1974حيث جعل مسك ختام المجموعة : قصص قصيرة جدا، أتذكر منه (سهم في الغابة ) وكذلك قصص قصيرة للقاص جليل القيسي

 

(*)

الكاتب الفرنسي الفوضوي(فليكس فينون( 1861-1942) هناك من يراه أول من دشن َ هذا الجنس القصصي، وأطلق عليه(قصة السطور الثلاثة) وهناك من يرى أن فيلكس كان متأثرا بالأدب السومري وهذه قصة منه(وطد الخادم قيلو علاقته بامرأة لطيفة في بيت سيده الغائب في نوبي سبور، ثم أختفى فجأة حاملا معه كل شيء عدا المرأة)/ سامي مهدي/آفاق نقدية /ص129- ملاحظة حول القصة القصيرة جدا

(*)

قصص (لم أكن نبياً) تشتغل على قانون الصدمة، وهذا القانون هو صاحب السيادة المطلقة على هذا الجنس القصصي، لكن خلدون يحاول التحايل على هذا القانون

من خلال : تكثيف السرد الوجيز، وكذلك توفير شحنة الغموض الشفيف وهناك الإحالة إلى نص آخر، كما هو الحال في قصة (جاذبية) فالقصة وهي تحيلنا إلى نص غير قصصي، تحاول التقاطع معه أيضا

(جلس َ تحتها، حاول إسقاطها بكلماته،لبث في مكانه: انتفضت مشاعره، لعن تلك النظرية وتسلق نحوها) شخصيا لا أود تفسير النص الجميل، اتركه لفطنة القراءة .

اتامل ُ في المحذوف من القصة في (يقظة)/ 68(تسمع بكاءه، تهرع إليه، تهزه بيدها، تغني أغنية فيروز لينام) هنا اكتمل النص بشحنة الأمومة المألوفة، أم تغدق حنانها على طفلها، لكن بقية السطر تفضح قسوة الصدمة (يغلبها النعاس على مهدٍ فارغ) والرهان هنا على تشارك القارىء في استئناف كتابة النص وهذه القصة تقتسم العنوان نفسه مع قصة أخرى، تشتغل على الموت أيضا والولد هو الذي يسرد / ص47 والمرأة في قصة (يقظة) ص68 ستواجهنا في قصة (إقناع): (تقول زوجتي :إن طفلنا بحاجة للحليب، امتلأ البيت بما يقارب الألف علبة، متى تصدق موته؟/ 12) نلاحظ أن قانون الصدمة في هذه القصص يشخص صدمة لدى شخصية النص ، لكن هناك من يحاول تعطيل هذه الصدمة من داخل النص، لصالح قانون الصدمة كتقنية سرد كما هو الحال في (رحمة)

(وجدت نفسي ملقىً على الأرض، وجميع من حولي يرتفعون إلى السماء، ما أن رفعت جسدي كي ألحق بهم، وإذا بصوت طفل ٍ أيقظني : أرجوك أبي لا تمت/ 14)

بين (رحمة) و(خاتمة) جماعية الموت في كلا القصتين والمنتصر هو المستقبل متجسدا في الطفولة . وهناك موت وشيك في (صراع)،وسيكون الموت بشحنة ساخرة في (قرار)

(*)

السيادة في القص هي للسارد العليم ، وأمام السارد إشكالية : الوجيز/ الكثيف

وللأسف معظم الذين يكتبون في هذا الجنس القصصي يجنحون للوجيز

ويكون سردهم بحركية أفقية ..أرى أن هذا الجنس صعب جدا ويحتاج خبرات في الكتابة والقراءات في القصة القصيرة والرواية بتنوعاتها .. حاول القاص خلدون التملص قدر الإمكان من الوجيز، فوقع أحيانا في المفارقة النمطية

(موقف) وجيزها : مشهد مؤلم عجوز ملقى على الأرض، وحشد هائل يحمد الله على نجاة غانية .. ملاحظة لغوية بخصوص عجوز ملقى : التقط ملاحظة ً حول

حول السهو اللغوي لدى جمال الغيطاني، أقول السهو وليس الخطأ وكلنا نتعرض  لهذا السهو يكرر الغيطاني في روايته( رسالة البصائرفي المصائر) هذه الجملة الفعلية(جلس رجل ٌ عجوز) يتوقف الروائي يوسف زيدان عند سهو الغيطاني

ليخبرنا زيدان (في اللغة لا يوصف الرجل بأنه عجوز، بل ،، شيخ هرم،، فالعجوز هي المرأة المتقدمة في العمر/ ص29/ يوسف زيدان / بين البحرين/ دار السعيد للنشر / القاهرة/ ط1/ 2018 والمباشرة حادة جدا في قصة (خطيئة) وكذلك (استخفاف) (شاعر)..(وعي) وبالمقابل هنا قصص تستحق الثناء( تنصت) (مأوى)(سبايا) (ولادة) (ربيع) (ضجر) (انتظار) (رمز) (أجور مدفوعة)(خلود) وأقسى القصة صدمة ً قصة (رتبة)

*خلدون السراي/ لم أكن نبيا/ دار الهجان/ البصرة/ 2018

 

 

          

 

عرض مقالات: