يشق علي الآن أن أتصور منفاك، أو أقترب ولو قليلاً من جنوبيتك التي لا رأس لها ولا ذنب، وقد لا تقل استعصاءً على استحالة تحررك منها أو ابتعادي عنها. لم يعد بوسعك صاحبي أن تقتنع لحظة أنك بحاجة إلى أن تتطهّر منها، لكنني أحب أن ألتقط سطورها سطراً سطرا، يلذ لي أن أسمعها جملة جملة، وأن أغلق عليها مسامعي وأسترح، ولكن هل ثمة جدوى من ذلك بعد الآن؟
دعني الآن أعيدها همسا، أضغط على منطقة رخوة في آهة أحزانك ثم نصغي معا الى شريط لعبتك القديمة، لعبة الـ "هناك" يا حسين.. لا أحد يراك الآن أكثر مني بوضوح. ربما أنا الوحيد مَنْ يدرك سر حزنك، ويتحسس لمعان عينيك الغائمتين، فمن المؤكد أنك تعرضتُ الى انتهاكات عديدة حصلت على نحو مفرط. نبتت في جسدك كالعاقول، وأمست جراحا تنافس هسيس الحشرات، وبشاعة ذلك الصياح التخريبي الممطوط الذي داهمنا قبل وبعد زلزال 2003.
تؤرقك يا حسين لحظة الصفر ذاتها، لحظة انفجار الحساء العراقي وما قبلها. لقد كان الكون صفرًا معدومًا في رأسك، لا زمان فيه ولا مكان، وليس فيه لك "هناك"، ثم حدث "هنا" في لحظة الانفجار، و"هناك" داخل الانفجار ذاته. ولكن لا يوجد مكان خارجه، لا يوجد "هناك" لك أنت ابن خارج المكان مذ ولادتك. كل ما يحيط بذلك الانفجار هو عدم، حتى حلَّت "كارثة الزمكان"، وبات لـك وجود وعدم و... هناك، وها أنت تطالبني أن أفهم، كيف يتحول اللا مكان إلى مكان!؟ أو ينتقل المكان إلى اللا مكان!؟ في لعبة "هُناكك" العجيبة، الباحثة عن أعتى أنواع العدم. العدم الخالي من كل شيء، المستحيل الذي لا جود له، رغم ادراكك أن ذلك العدم لا يحوي لك أيّ "هناك"، لك يا حسين بالذات.
كنت تتحسس جوهر كل ما يدور في هذا البلد، وكان حزنك يفضح "ثلجة" ابتسامتك التي بالكاد تلامس شفتيك اليابستين كغازي مستبد. اختار وجهك "القنوع" ملمح جامد واحد، وارتضيت الترقب والصمت، وملت رأسك الذي غدا مثقلا بهسيس حشرات الليل وصوتُ عواء لا يسمعه غيرك، وجدتُ نفسك ازاء اختناق خفي، تحرر من طوق احتمالك، وراح يحيط بعنقك، ويجثم على صدرك، ويغدو أداة ضاربة بيد الـ "هناك" لإضعاف توازنك الذي بدأ يترنح "هنا" بصمتٍ.
صرتُ على يقين يا حسين، إنني حين أنسى جراح هذه الـ "هناك"، أو أحاول أن أتذكرها وأفشل، سيكون واحدا من اثنين، اما أن أكون ميتا، أو أن حسين عثر على "هنانه"! لقد أشعرتني مبكرا بأحاسيس تنذر بانقلاب غير مسبوق في حياتينا، تسلل من أضيق مساماتها رعبا، ودوّى في أشد فصولها غواية، منذرا بخيبات جديدة جاهزة، لم تمنحني فرصة اكتشافها أو حل طلاسمها. لا أعرف لماذا اتفقنا على فلسفة "هنانك" يا حسين؟ كيف فعلنا ذلك؟ فعلنا ذلك وحسب.
يلزم أن أصاحبك دائما، وأن أتذكرك دائما. سأجدك باحثاً عن "هنانك"، وستجدني داخل القضبان. خارج القضبان تثار الأفكار والتصورات ببطء، بطريقة أشهى، بينما يفكر السجين مثلي بلا اختيار. ولكن اطمئن، هذه الـ "بلا" ستظل تتابعك، وستمنحك صحبة خفية، للحبيس طعم سري لا يعرفه سواك، وربما لا يدركه أمثالي، حتى تجد "هنانك" أخيراً في ظلمة منفاك وتجدني بقربك.
هذا هو كل شيء إذن.