كنتُ ألتقيه عندما كان يأتي الى العاصمة بغداد قادماً من كركوك التي يسكنها، وأحياناً يكون اللقاء صدفة في ساحة الطيران المكتظة بالعمال والجنود والباعة المتجولين، نشرب الشاي على عجلٍ في تلك الساحة التي تطل على جدارية فائق حسن، ثم نذهب مشياً الى إتحاد الأدباء القريب من ساحة الأندلس، الدقائق التي نمشيها نقضيها بالحديث عن الشعر في الغالب وعن أجمل النصوص التي نشرت مؤخراً في الصحف والمجلات للشعراء الذين نعرفهم او الذين لا نعرفهم. هكذا كان اللقاء بالشاعر الشهيد رعد مطشر وبفترات متباعدة، ابتسامة رعد عريضة وفيها من الحزن الكثير الذي يخفيه تحت تلك الإبتسامة لكنه يشعر بالسعادة حين يقرأ ويتابع ما ينشر من نصوص في الشعر والقصة والمسرح والترجمات والدراسات النقدية فهو شعلة ثقافية تراقب المشهد الثقافي برمته عن كثب. وبعد أن توقفت حرب الخليج الثانية كنتُ أرى في عينيه حزنا عميقا على البلاد التي تساقطت فوق مدنها الأطنان من القذائف والمتفجرات التي رمتها قوات التحالف على بغداد ومدن العراق الأخرى، الجميع الذين عاشوا الحرب كانوا يشاهدون موت الوطن جراء حماقات نظام عشق الحروب وحكم بالحديد والنار لعقود من الزمن!
كان رعد مطشر يكتب قصائده في تلك الأجواء الشاحبة التي خيَّمت عليها السوداوية والموت وأطراف الجنود المقطعّة الأوصال فظل يؤرخ الشاعر عبر قصائده لتاريخ هذه البلاد التي دمرتها الحروب ولم تتوقف. رعد مطشر المولود في بغداد 1963 ينتمي الى جيل الثمانينات الشعري في العراق أو ما يسمى بجيل الحرب وله العديد من الكتب في الشعر والقصة والمسرح والنقد، يمتلك لغة مفعمة بالإشارات والرموز التي تحمل هموم الوطن المضرج بدماء ابنائه، كان الشاعر رعد مطشر يشاهد مأساة بلاده بعين الشاعر وقد عبّر عنها بالكثير من قصائده والتي هي بمثابة احتجاج على الوضع المزر وحياة البؤس والخوف، فالحرب لا تخلّف سوى الرماد والموت. الشاعر رعد مطشر استشهد ايام العنف الطائفي الذي اجتاج العراق بعد سقوط النظام العراق، في عام 2007 اغتالته جماعة مسلحة مجهولة الهوية في ناحية الرشاد جنوب مدينة كركوك بعد ان هجموا على سيارة للصحافة أمطروها بوابل من الرصاص وفيها ثلاثة صحافيين وسائق ومن ضمنهم الشاعر رعد مطشر الذي كان في تلك الفترة رئيساً لاتحاد أدباء كركوك وكذلك رئيساً لمؤسسة اعلامية باسم "الرعد".
كان استشهاده خسارة كبيرة تضاف الى الخسارات والفقدان داخل الوطن المضرج بدماء ابنائه في تلك السنوات التي أقل ما يقال عنها بأنها سنوات الخوف والموت بالمجان. وفي قصيدة له بعنوان "أتقاطر من معصمي" يجسد الشاعر عذاباته التي لا تنتهي وأحلامه المؤجلة جراء الحروب والدمار والخوف ويرثي بلاده المخربة والغارقة بالفجيعة، فالليل خيّم على البلاد والطائرات تحلق فوق سمائها وترمي بحمولاتها التي تنثر الموت في كل بقعة من أرض الوطن وقد صور الشاعر لنا من خلال قصيدته "أتقاطر من معصمي" صور الموت بتفاصيلها الدقيقة فيتساءل الشاعر هل سبق وان متنا؟ ويسأل عن تقافز المراوح في الرأس وسهو الوسادة؟ وكيف علينا ان نبرر موتنا والناس مثل سطوح مؤجرة للحبال ثم مباغتة المزاريب من ثوب مبلل، نلاحظ ان الشاعر قد استخدم الرمزية بأعلى درجاتها ويحاول ان يذهب بنا بعيدا عن الرقيب الذي كان يسيطر على الرقاب قبل سيطرته على النصوص! فالموت هو الثيمة الرئيسة للقصيدة وكذلك للمجموعة ككل والتي تحمل عنوان القصيدة نفسه ، ويرى الشاعر ثمة نداء موحش يسمعه الموتى ومآس تعض رخاوة دخان الحروب ويشير ايضاً الى ان سبب تلك المأساة هو ذلك السيد الذي نشر صوره في كل ساحات البلاد.
لغة الشاعر رعد مطشر متماسكة ورصينة وتبين امكاناته التي تدلل على انه يمسك بجمرة المأساة بروح الشعر الذي يكتبه والمؤرخ لتاريخ الألم والخوف والموت كما يصور الشاعر المأساة التي عاشتها البلاد من خلال نصه الباذخ بالفجيعة بعنوان "أتقاطر ُ مِنْ معصمي" فيقول:
هلْ سبقَ وأنْ متْنا بعد مهرجٍ متسكّعٍ فينا؟!
فلماذا تتقافزُ المراوحُ في الرأس
وتسهو الوسادةُ عن بترِ رؤاه؟!
وعلى ماذا نبرّر موتَنا العالي
بأنَّ الناسَ سطوحٌ مؤجّرةٌ للحبال
وتباغتُنا المزاريبُ
من ثوبٍ مبلّل؟!

عرض مقالات: