أربع سنوات مرت على رحيل شاعر التفاصيل اليومية وشاعر الطفولة والحب والطيور والحزن العراقي الذي لا ينضب في قلبه. هو صاحب المسار الشعري الخاص والقصيدة المميزة في المشهد الثقافي العراقي برمته، ألق القصيدة هو الذي يدلنا على شاعرها من خلال روحه واحساسه وعذوبته وألمه وجراحاته المثخنة التي نقرأها في الكثير من قصائده. انه الشاعر الراحل حسين عبد اللطيف 1945-2014 ابن مدينة البصرة الطيبة بناسها ونخيلها والتي يتعانق فيها الفرات مع دجلة الخير، فالشاعر عاشق لمدينته التي كرس أغلب كتاباته عنها. البصرة مدينة الشاعر ترابها من ذهب وليلها سرمدي وسكانها لا أحد يلتفت إليهم وهم يصارعون الفقر والمرض وسط إهمال شبه تام للمدينة وأهلها. لم يغادر حسين عبد اللطيف بصرته وفضل الموت فيها بعد ان عجزت المؤسسات الحكومية عن معالجته من مرض السكري، فكان ينتظر موته بعد سنوات صعبة مرت عليه من جراء رحيل ولده "حازم" ومن ثم المرض الذي داهمه والفقر وصعوبة الحياة.
في مقطع من قصيدة يصف فيها موته قال الشاعر: "سعيدٌ أنا الآن، موتي مريح، دعي الباب لا تفتحي الباب، وحدي لمن تكتبين".
كتب حسين عبد اللطيف قصائده وهو يستذكر طفولته في شوارع وحارات المدينة وكان يمزج الحب بالحزن بطريقة الشاعر الماهر ويستنطق الأشياء من حوله حتى التي أدرجت في خانة النسيان، أنه شاعر لا يشبهه شاعر آخر، فقصيدة حسين عبد اللطيف منفردة وبعيدة عن التكرار وتسير لوحدها متوجة بالإبداع عبر صورها الشعرية وإيقاعها.
يكتب عبد اللطيف قصيدتيّ التفعلية والنثر بمهارة وإتقان عاليين فقصيدة التفعيلة لديه لا تشبه أقرانها لِما فيها من دهشة وروح عالية الإحساس بالأشياء، والتفاصيل اليومية الصغيرة تجعل من القصيدة تشتعل بصورها الجميلة، كما وان قصيدة النثر التي يكتبها تعتمد على المفارقة الكبيرة داخلها وتمتلك روحية وسلطة شعرية فريدة تفرضها على القارئ الذي يصاب بانبهار شديد حال قراءتها، فالحداثة سمة من سمات قصيدة النثر لديه.
جرب الشاعر ما بين الشكلين الشعريين ونجح فيهما، ففي قصيدته رهط الطير في حضرة العراق جعل كل أنواع الطيور تقف بحضرة العراق الذي تحمل حماقات الأنظمة الدكتاتورية عبر عقود وتحمل الحروب وويلاتها فكانت قصائده صديقة للطيور وهي تحلق في سماء الوطن وحيث تقوم بتحيته كما يصف فيالق الطيور واسرابها العجيبة في الربيع وهي تقف في حضرة العراق وكيف يصور لنا الشاعر تلك الفيالق حين تسجد وتمجد تراب الوطن في براعم الأشجار التي يسميها باسمائها مثل الرمان والقداح والخزامى، فيطلب الشاعر من وطنه ان يستمع لهذه الطيور المختلفة الأنواع والأشكال التي تعيش داخل أرضه ومزارعه وبيوته وسمائه ومياهه من شماله الى جنوبه. انه الشعر صاحب السطوة الكبيرة على القلوب وهو يقف في حضرة العراق فيسجد وتسجد معه كل الأشجار وكل المياه والطيور والجبال وحتى السماء، فرحاب الوطن وأحضانه دائما ما تكون دافئة لابنائه لكن الشاعر يتألق بقصيدته عبر مقاطعها التي تقطر حباً وحزنا، فيقول في قصيدته "رهط الطير في حضرة العراق" التي كتبت قبل عقود ثلاثة:
الحدأة، الباز، العقاب، العقعق، الشاهين، والصقر العظيم
جاءت بفيلقها العجيب
مع الربيع.. إلى رحابك
جاءت وحطت عند بابك
زمرا.. تمجد ما تمجد من ترابك
...
في برعم الرمان، والقداح،
أو زهر الخزامى
فاسمع إليها يا عراق
تشدو بأغنية انتسابك..

عرض مقالات: