مقتبل العمر، بدايات العنفوان، عنفوان الشباب، عنفوان الانتماء لليسار، أي لون يمكن أن تمنحك إياه مدينة مثل بيروت في تلك السبعينات "ربما هي الصدفة، أو هو الحظ، أو شيء آخر، غامض جدا، لم استطع طوال قرابة النصف قرن من فك شفرته ؟! كيف لشاب على مشارف العشرين من عمره، أن يصل الى بيروت بجواز سفر، ويعمل مباشرة في الصحافة اللبنانية؟ كيف لصبي على مشارف العشرين من عمره أن يهرب من بغداد!؟ حينما كانت شرطة الآداب تدهن سيقان الفتيات بالزفت الاسود، وتقص شعر الشباب في الشارع.. والاقوى في هذا التساؤل، أن يعمل وفي الاسبوع الاول من وصوله الى بيروت في مجلة ويكلف دون اختبار او دروس في الصحافة بالإشراف على الصفحة الفنية في تلك المجلة.
هي الصدف كما قلت او الحظ، أو ذلك الشيء الغامض العصي على الفهم ؟!
ربما كلها ساهمت في أن يضع الشاب العشريني خطواته الراسخة في بيروت بهذه القوة.. فبعد عمل مضن ومتواصل ولذيذ، تعرفت فيه على الكثير من الشخصيات المؤثرة في الوسط الادبي آنذاك.. ليس أولهم الراحلان الكبيران الشاعران مؤيد الراوي وشريف الربيعي أو الشاعر بلند الحيدري، حينما كان مشرفا على مجلة علوم اللبنانية.. تعرفت على ادونيس وقبلها التقيت محمد الماغوط.. والكثير من الفنانين.. رسامين كبار، نحاتين كبار، مسرحيين كبار.. كل هذا وانا سعيد، خاصة مدة التمديد الروتينة كل ثلاثة اشهر كنت امضي شهرا "أكثر أو اقل"، هو اسبوع اجازة لكني امدده لشهر.. الى قبرص في باخرة سياحية عملاقة.. تسكرني رائحة البحر والموسيقى وتفاصيل كثيرة كلها ألق وألوان وعادة تكون خارطة العودة.. الذهاب الى اليونان ومن ثم الى تركيا ومن ثم الى حلب ومن حلب الى دمشق ومن دمشق الى بيروت... الله الله.. كم كنت فرحا وسعيدا.
بعد أن زادت المشاكل بين المقاومة الفلسطينية والجيش اللبناني وبدايات الحرب الاهلية اللعينة.. كانت عيون العسس موضوعة على كوادر المجلات وبالأخص مجلتي "الى الامام" و"الهدف" وغيرها من المجلات.. كنا نبحث عن مخابئ لنا كلما يتم اعتقال احد الكوادر الصحفية او السياسية.. مثلا حينما اعتقل الشاعر شريف الربيعي اختفيت في أحد فنادق ساحة البرج.. وعبر اتصالات معينة مع اصدقاء رتبت امري للسفر الى مصر وقطعت تذكرة سفر الى القاهرة "ذهاب فقط" والموعد كان يوم 7 تشرين الأول.. رتبت حقائبي واهديت الكثير من الكتب التي كانت في غرفتي أصدقاء من نزلاء الفندق وجلهم من المصريين.. وكانت لوحتان لاصدقاء لي في بيروت واحدة لفنان عراقي كان يعمل معنا في المجلة اسمه "حسيب الجاسم" من اهالي الموصل والاخرى لفنان عالمي.. اهديتها صاحب الفندق الذي تنازل عن اخذ بعض ما يستحقه من اجور.. وكانت ليلة 5 تشرين الأول .. وبعد سهرة امتدت حتى الفجر.. سمعت وأنا غير مصدق، الاناشيد الثورية والزحف المصري وعبور القناة وسقوط خرافة "خط بارليف" وووو .. امضيت يوم 6 أكتوبر مصغيا الى نشرات الاخبار .. وكلما تزداد حدة المعارك.. يزداد قنوطي.. ونشرات الاخبار تعيد كل ساعة "اغلاق الاجواء المصرية امام حركة الملاحة الجوية "الله .. الله" لم تفعلها يا أنور السادات الا في هذا اليوم؟!!
كان الأولى بك أن تنتظر قليلا لأصل الى مصر.. وخاصة واني كنت احمل رسائل من اصدقاء عراقيين الى احدى الصحف المصرية... المهم هناك سؤال طرحته علي احدى المضيفات في شركة الخطوط قبل أن تقطع التذكرة.. لدينا طيران يوم 1/10 ولدينا طيران يوم 7/10 لا أعلم لماذا اخترت 7/10 هل هو الحظ أم الصدفة أم ذلك الشيء الغامض الذي حدثتكم عنه ؟!

 

عرض مقالات: