الحرية مشيمة الشعوب، شريان الحياة الأول، باب التفاعل بين الموجود ووجوده. واذا كانت المشيمة في الرحم حلقة الوصل الوحيدة بين الجنين وأمه قبل أن تكتمل رئتاه، فالحرية مشيمته الوجودية الكبرى بعد صرخة ولادته.
لا حياة للإنسان بلا حرية، ولن تكتمل كينونته بدونها، واذا ما تعرض هذا الشريان للخطر، وانفصلت المشيمة عن الجدار الداخلي للرحم سيغدو الجنين في خطر، مثلما ستغدو حياته برمتها جحيماً بعد امتلاكه وعيه.
الساعون الى تقويض شريان الحياة لفظتهم الحياة أولاً قبل سعيهم، ووضعتهم خارج الخدمة، فحصل بينهم وبينها نوع من أنواع الطلاق.. تحرر التأريخ منهم ولم يترك لهم أثرا الا في مخلفاته، فما عادوا يفقهون من بؤس احتضارهم الا أمل العودة ثانية الى الحياة ليسلبوا منها شريانها، ويفصلوا الشعوب عن مشيمتها، ويحل ظلامهم المعتم.
حتى قانون حفظ بقاء الجنس البشري لم يعد يذكرهم، تركهم يتخبطون في وهم احتكار الحقيقة المطلقة، وحلم السطو على الحكم والهيمنة على خزائن البلد والسعي لفرض نزوعهم المقيت ومحاولة "خصخصة" الآخر!
هم لا يرتضوا الا بالسطو على السلطة والتمسّك بها وقتل وابادة الآخرين. ذاتٌ مزيفةٌ مريضة تسعى باستمرار الى الاعتقاد أنها الرابح في الدنيا والآخرة، ومن حقها أن تنهب وتدمر وتعيث في الأرض فسادا، ووحدها من تملك حق اصدار الأحكام على الآخرين وتحديد حياتهم وفرض عقيدتها المريضة عليهم.
أوه.... ستمنحنا هذه الذات بعض الهبات السخية، ستسلم كل منّا: "الهندير" وعليقة الفرس، الكيس المملوء بالعلف والمعلق برأسِ الحصان و"جلال الخيل"، اللحاف الذي يُوضع على الفرس، ثم تتكرم علينا برفع السوط وتطلق كلمة واحدة لا غير:"دي"!
حقا، سنشعر بقلق الإخصاء، لأنهم لا يريدون "آخرين" ولا يمنحونا حق اثبات أنفسنا، ولا يعلمون أن مَن يحكم علينا، نحن الاخرين، انما يمنح لنفسه معنىً واحدا: المتسلط! بينما سنحتفظ نحن "العبيد" كرها بمعنى مغاير مرير: الضحايا الذين لن يجدوا في النهاية غير الشاعر الأرمني "غريغوريان"، ليرددوا معه "همساً":
هذا هو وطني وهو بحجم
يمكنني اصطحابه
عند ذهابي إلي أمكنة بعيدة
إذ إنه صغير كالأم العجوز
كالمولود الجديد،
وأما علي الخارطة
فهو دمعة واحدة فحسب.
هذا هو وطني، بحجم يمكنني
من أن أحفظه في قلبي
كي لا أفقده فجأة"!